للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

للذين كفروا، إن ينتهوا يُغْفَرْ لهم ما قد سَلَف}. [الأنفال:٣٨/ ٨]. وحكم في القاذف بالزنا بجلد ثمانين، ولم يوجب على القاذف بالكفر الحد، وهو أعظم من الزنا. وأوجب على شارب الخمر الحد، ولم يوجبه على شارب الدم وآكل الميتة، فثبت بذلك أن عقوبات الدنيا غير موضوعة على مقادير الإجرام، ولأنه لما كان جائزاً في العقل ألا يوجب في الزنا والقذف والسرقة حداً رأساً، ويكل أمرهم إلى عقوبات الآخرة، جاز أن يخالف بينها، فيوجب في بعضها أغلظ ما يوجب في بعض، ولذلك قال أصحابنا (أي الحنفية): «لا يجوز إثبات الحدود من طريق المقاييس، وإنما طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق» أي أن العقوبة لا تثبت إلا بالنص عليها لا بالاجتهاد (١).

وهذا مطابق لقول القانونيين: «لا جريمة ولا عقوبة إلا بالنص».

الشعور القوي بضرورة التطهر من الذنب: تمتاز شريعة الله بأنها تلقي في نفس الإنسان شعوراً قوياً بمخاطر الجريمة أو المعصية، وإحساساً متدفقاً بضرورة تطهير نفسه من آثار الذنب، فيبادر إلى الإقرار بالجريمة، كما فعلت المرأة الغامدية حين اعترفت بالزنا في حال حياة النبي صلّى الله عليه وسلم، وكذا امرأة العسيف (الأجير) وماعز ابن مالك الأسلمي. ورُجم الكل (٢)، إحساساً منهم بضرورة التطهر من أثر المعصية. وهذا الشعور يولد الخوف من اقتراف الجريمة، وينمي ذلك الشعور معرفة فضل الله بعدم تكرار العقوبة الأخروية، في رأي أكثر العلماء غير الحنفية القائلين بأن الحدود جوابر للمسلم تسقط عقوبتها في الآخرة إذا استوفيت في الدنيا، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من أصاب حداً، فعُجِّل عقوبته في الدنيا، فالله أعدل من أن يُثنِّي على عبده


(١) أحكام القرآن للجصاص: ٢٦/ ١ - ٢٧.
(٢) ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة عند البخاري ومسلم وأحمد والموطأ والدارقطني وغيرهم (جامع الأصول: ٢٧٩/ ٤، نصب الراية: ٣١٤/ ٣، نيل الأوطار: ١١١/ ٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>