للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تلك أخبار متعاضدة، تثبت أن الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - قد أباحوا الكتابة، وكتبوا الحديث لأنفسهم، وكتب طلابهم بين أيديهم، وأصبحوا يتواصون بكتابة الحديث وحفظه، كما ثبت ذلك عن عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وعن ابن عباس، وعن الحسن، وأنس بن مالك - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، بعد أن كرهها بعض الصحابة عندما كانت أسباب المنع قائمة.

ويتجلى لنا رجوع بعض من كره الكتابة عن رأيه مما رويناه عن ابن مسعود وعن أبي سعيد الخدري، إذ بعد أن كانوا يكرهون أن يكتبوا في الصحف غير القرآن كتبوا الاستخارة والتشهد، وفي هذا دليل واضح أن النهي عن كتب ما سوى القرآن إنما كان مخافة أن يضاهي بكتاب الله تعالى غيره، وأن يُشتغل عن القرآن بسواه، ويقول الخطيب البغدادي: «فَلَمَّا أُمِنَ ذَلِكَ، وَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى كَتْبِ العِلْمِ لَمْ يُكْرَهْ كَتْبُهُ كَمَا لَمْ تَكْرَهِ الصَّحَابَةُ كَتْبَ التَّشَهُّدِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَبَيْنَ (١) غَيْرِهِ مِنَ العُلُومِ فِي أَنَّ الجَمِيعَ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَلَنْ يَكُونَ كَتْبُ الصَّحَابَةِ مَا كَتَبُوهُ مِنَ العِلْمِ وَأَمَرُوا بِكَتْبِهِ إِلاَّ احْتِيَاطًا كَمَا كَانَ [كَرَاهَتُهُمْ] لِكَتْبِهِ احْتِيَاطًا , وَاللَّهُ أَعْلَمُ» (٢).

...

ثَالِثًا - التَّدْوِينُ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ:

لقد تلقى التابعون علومهم على يدي الصحابة، وخالطوهم وعرفوا كل شيء عنهم، وحملوا الكثير الطيب من حديث رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن طريقهم، وعرفوا متى كره هؤلاء كتابة الحديث ومتى أباحوه، فقد تأسوا بهم


(١) كان ينبغي أن لا يكرر (بَيْنَ).
(٢) " تقييد العلم ": ص ٩٤.