للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأبو هريرة ليس بِدَعًا في قوله، فقد كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يختص بعض أصحابه بأشياء دون الآخرين، من هذا حديثه لمعاذ بن جبل - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلاَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ». قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: «إِذًا يَتَّكِلُوا» (١). وأخبر به معاذ عند موته تأثُّمًا، خَوْفًا من أنْ يكون قد كتم العلم. ولم يكن معاذ وَلِيَّ عَهْدِهِ وَلاَ خَلِيفَتَهُ من بعده، فالأمر لا يحتاج إلى ولاية عهد ولا إلى وصاية، فَلِمَ ينكر الكاتب مثل هذا على أبي هريرة ولا ينكره على غيره؟ ثم ليعرف المؤلف الأمين الذي أساء كثيراً إلى أبي هريرة، وشتمه وكال له السِبَابَ كيلاً - أنَّ كتمان أبي هريرة لهذا الوعاء لم يكن لخوفه ألا يسمع الناس له لمهانته وضعفه فيرمونه بالبعر وبالمزابل، بل لأنه أرأد أنْ يُحَدِّثَ الناس على قدر عقولهم، وأنْ يخاطبهم بما يفهمون ويعرفون، وبهذا أوصى أمير المؤمنين عليٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - (٢).

أما قول أبي هريرة: «إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لاَ يَكْتُمُ، وَلاَ يَكْتُبُ»، فلا يتعارض مع حديث الوعاءين لأنَّ أبا هريرة لا يكتم العلم النافع الضروري، وما كتمه لم يكن من هذا، بل كان بعض أخبار الفتن والملاحم وما سيقع للناس مِمَّا لا يتوقف عليه شيء من أصول الدين أو فروعه، وهذا النوع من العلم يجدر كتمانه، ومن الصواب عدم نشره وإعلانه.

- وأما ما استشهدوا به لدعم طعونهم في كثرة مرويات أبي هريرة، واحتجاجهم بما قاله أبو هريرة نفسه: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النََّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -


(١) " فتح الباري ": ص ٢٣٦ جـ ١.
(٢) " فتح الباري ": ص ٢٣٥ جـ ١.