للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال البغدادي: «حَدَّثَنِي فُلاَنٌ بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ» وأراد نهر دجلة (١)، أوقال: «بِالرِقَّةِ» وأراد بستانًا على شاطئ دجلة، أو قال الدمشقي: «حَدَّثَنِي بِالكَرْكِ» وأراد كرك نوح وهو بالقرب من دمشق، ففي ذلك كله إيهام الرحلة في طلب الحديث. والحافظ ابن حجر يطلق على هذا التمويه اسم «تدليس البلاد»، ويلحقه بـ «تدليس الشيوخ» (٢).

وكان بعض المدلسين من أئمة الحديث يجدون في التدليس متعة نفسية، فلا يحلو لهم الدعابة إلا بهذا الضرب من الرواية المبهمة يخوضون فيه متساهلين ثم يندمون ويتوبون، قيل لِهُشَيْمٍ بْنِ بَشِيرٍ (٣): مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا؟ يَعْنِي التَّدْلِيسَ؟ قَالَ: «إِنَّهُ أَشْهَى شَيْءٍ!» (٤). واجتمع نفر من أصحاب هُشيم هذا يومًا على أَلاَّ يأخذوا منه التدليس، ففطن لذلك، فكان يقول في كل حديث يذكره: «حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ , وَمُغِيرَةُ , عَنْ إِبْرَاهِيمَ»، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُمْ: «هَلْ دَلَّسْتُ لَكُمُ الْيَوْمَ؟» فَقَالُوا: لاَ، فَقَالَ: «لَمْ أَسْمَعْ مِنْ مُغِيرَةَ حَرْفًا مِمَّا ذَكَرْتُهُ، إِنَّمَا قُلْتُ: «حَدَّثَنِي حُصَيْنٌ وَمُغِيرَةُ» غَيْرُ مَسْمُوعٍ لِي! (٥).


(١) راجع قصة السمعاني فيما وراء النهر: ص ٧٠ ح ٢ من كتابنا هذا.
(٢) انظر تفصيل هذا في " التوضيح ": ١/ ٣٧٢.
(٣) هو الحافظ الكبير هُشيم بن بشير بن أبي خازم، سمع الزهري وعمرو بن دينار ومنصور ابن زاذان وحصين بن عبد الرحمن وأبا بشر وأيوب السختياني وخلقًا كثيرًا. قال فيه الذهبي: «لا نزاع في أنه كان من الحفاظ، إلا أنه كثير التدليس، روى عن جماعة لم يسمع منهم». توفي سنة ١٨٣ هـ. (راجع ترجمته في " تذكرة الحفاظ ": ١/ ٢٤٨).
(٤) " الكفاية ": ص ٣٦١.
(٥) " معرفة علوم الحديث ": ص ١٠٥ وقارن بـ " التدريب ": ص ٧٩. ويسمى هذا النوع من التدليس «تدليس العطف»، كما رأينا، لأن هُشيمًا هنا قال: «حَدَّثَنِي حُصَيْنٌ وَمُغِيرَةُ» وهو لم يسمع من (مغيرة) المعطوف حرفًا واحدًا. أما حصين فقد سمع منه الكثير، فهو حصين بن عبد الرحمن المذكور في سماعات هُشيم في الحاشية ٣. وعبارة =