للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أدرك هشيم إذن أن للمزاح بالتدليس حدودًا، فاعترف بنفسه بأن ما ادعى سماعه غير مسموع له!! وكذلك كان المدلسون يعترفون بتدليسهم ولا سيما إذا وقع إليهم من ينقر عن سماعاتهم ويلح في مراجعتهم (١). بل كانوا غالبًا يعدلون عن عبارتهم المبهمة إلى التصريح بحقيقة ما سمعوه، محذرين الناس من رواية ما دلسوا فيه. قَالَ عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ: «كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ (٢) فَقَالَ: ... الزُّهْرِيُّ، فَقِيلَ لَهُ: حَدَّثَكُمُ الزُّهْرِيُّ؟ فَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَلاَ مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ» (٣).

وقد يستغرب وقوع التدليس من مثل هذين الإمامين، ابن عُيينة وهُشيم لما وصفا به من الأمانة والحفظ والضبط، ولا غرابة ... فما أقل الذين سلموا من التدليس! (٤) حتى ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - ما سمع من النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا أحاديث


= السيوطي في " التدريب " تقطع بهذا، فقد قال هشيم: «كُلُّ مَا قُلْتُ فِيهِ ( ... وَفُلاَنٌ) فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ».

(١) " معرفة علوم الحديث ": ص ١٠٤ ونقله في " التدريب ": ص ٧٩.
(٢) هو العلامة الحافظ شيخ الإسلام سفيان بن عيينة بن ميمون، أبو محمد الهلالي الكوفي، سمع عمرو بن دينار والزهري وزياد بن علاقة وأبا إسحاق والأسود بن قيس، وزيد بن أسلم وعبد اله بن دينار والمنصور بن المعتمر وعبد الرحمن بن القاسم. اتفقت الأئمة على الاحتجاج به، ولكنه كان مدلسًا على الثقات. توفي سَنَةَ ١٩٨ هـ (" تذكرة الحفاظ ": ١/ ٢٦٢).
(٣) " التوضيح ": ١/ ٣٥١، و" التدريب ": ص ٧٨. وهذا ما يسمونه «تدليس القطع» لقطع الراوي أداة الرواية، فهو يكتفي بتسمية شيخه قائلاً « ... فُلاَنٌ» كما قال ابن عيينة: « ... الزُّهْرِيِّ» فلم يعين: هل حدثه به الزهري أم قاله له أم سمعه منه. وقد سبق أن استشهدنا (ص ١٧١) على تدليس الإسناد برواية تشبه هذه وليست مثلها تمامًا، وإنما أعدنا ذكرها هنا لاستنتاج حكم جديد.
(٤) " التدريب ": ص ٧٧ وفيه: «قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: وَعَلَى هَذَا فَمَا سَلِمَ أَحَدٌ مِنَ التَّدْلِيسِ، لاَ مَالِكٌ، وَلاَ غَيْرُهُ!».