للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إلا أنهم حاولوا ما وسعهم الأمر أن يكونوا في كل ما يَرْوُونَ صادقين حذرين محتاطين، ولكن حزم أهل الحديث لم يكن يدركهم إِذَا أَرْسَلُوا مُسْنَدًا، أَوْ أَسْنَدُوا مُرْسَلاً، أو قطعوا موصولاً، أو وصلوا مقطوعًا، أو أدخلوا رواية في رواية، فإن لهم عذرهم على كل حال، وإنما يتمثل هذا العذر في أخذ معظمهم أخبار الأدب وشواهد النحو واللغة من رجال لم يشهدوا العصر الجاهلي، فلا عليهم إذا سقطت بعض حلقات الإسناد، ولا ضير - حين تسقط هذه الحلقات - في سد الفجوات، وملء الفراغات، وتدليس التسوية (١) تعويضًا لشخص بآخر يعاصره، وترميمًا لسلسلة الإسناد حتى تخلو من الانقطاع!.

ولا نقول مع ذلك: كان رواة الأشعار وضاعين، ولا متساهلين، ولا متعمدين للتمويه والتدليس، فقد أَخَذَهُمْ من عدوى أهل الحديث ما أَخَذَهُمْ، وقد كان في تهربهم نفسه من رواية الحديث أوضح دليل على تأثرهم بمصطلحات المحدثين، وخوفهم من عصا المؤدب الذي لا يرحم، ومن شبحه الغالي في الرصانة، المبالي في الحذر، الذى يريد ليكون تلامذته كلهم في كل ما يَرْوُونَ من شؤون الدنيا أو أصول الدين أصدق الناس لهجة، وأصرحهم وجهًا، وأخلصهم حديثًا.

لكنا نعجب مرة أخرى للنحاة الأولين: كيف طَوَّعَتْ لهم أنفسهم أن يهجروا حديث الرسول وهم يحتجون، ويلتمسون الشواهد لما يُبَوِّبُونَ وَيُفَصِّلُونَ، مع أنهم كانوا يعلمون علم اليقين أن شروط المحدثين في المشافهة والإسناد تضمن لهم أصدق الأخبار وأقومها قِيلاً!


(١) ارجع إلى بحث المدلس، واقرأ منه بوجه خاص ما يتعلق بتدليس التسوية: ص ١٧٢.