للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

«أَحْفَظُ مِائَةَ أَلْفَ حَدِيثٍ صَحِيحٍ، وَمِائَتَيْ أَلْفَ حَدِيثٍ غَيْرَ صَحِيحٍ» (١).

وكأنهم - حين يقتصرون على عشرات الألوف - لا يريدون إلا ما صَحَّ من الأحاديث المرفوعة.

والورعون من الحُفَّاظِ ما كانوا ليرضوا عن غلو الناس في شأنهم لو كان لهم الخيرة من أمرهم، فإن واحدهم يكون عنده الحديث فيسوقه الناس بالقرعة حتى يخرجه أو يرويه (٢). ويكتب أحدهم أو يحفظ مئات الألوف فلا يروي إلا عشراتها، أو يحفظ عشرات الألوف فلا يُحَدِّثُ إلا بآحادها، وَهُمْ يشترطون على أنفسهم - فوق هذا كله - التعمق في العلم والفهم والدراية، لا مجرد الإكثار التوسع في الرواية (٣).

رِوَايَةُ الحَدِيثِ بِالحِفْظِ:

ويزداد إكبارنا لهؤلاء الحفاظ إذا عرفنا أن العلماء كانوا - ولا سيما في بادئ الأمر - يَتَشَدَّدُونَ في الرواية باللفظ والنص، ولا يتساهلون حتى بالواو والفاء. فكانوا يرون أن على المُؤَدِّي أن يروي ما تَحَمَّلَهُ باللفظ الذي تَلَقَّاهُ من شيخه دون تغيير ولا حذف ولا زيادة. واستدلوا على ذلك بقوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَضَّرَ اللهُ امْرُءًا سَمِعَ حَدِيثاً فَأَدَّى كَمَا سَمِعَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» (٤)، وبتعليمه - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - الصحابة الحِرْصَ على لفظه النبوي، كما فعل مع البراء بن عازب حين أعاد أمامه قراءة الدعاء الذي عَلَّمَهُ إياه عند أخذ المَضْجَعِ


(١) " تدريب الراوي ": ص ٨ أَيْضًا.
(٢) " الجامع ": ٨/ ١٥١ وجه ٢.
(٣) " الجامع ": ٨/ ١٥١ وجه ١.
(٤) " الكفاية ": ص ١٧٣.