للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

المثال الأول: حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثًا، فلم يجعل رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها سكنى ولا نفقة، قال عمر رضي الله عنه: «لاَ نَتْرُكُ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، لاَ نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ، أَوْ نَسِيَتْ، لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ، قَالَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: ١]» متفق عليه (٢٥).

فقد وجد عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أن الأقوى هو الأخذ بنصوص القرآن وَالسُنَّةِ التي تدل على وجوب النفقة والسكنى لكل مطلقة مدة العدة، ومن ذلك المطلقة ثلاثاً، فقدم ذلك على حديث فاطمة بنت قيس ووافقه على ذلك كثير من الصحابة، وعمل بعض الصحابة بحديث فاطمة بنت قيس، لكن أحدًا لم يتهم عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بترك الحديث وعصيان أمر النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

المثال الثاني: حديث أبي هريرة عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ» متفق عليه (٢٦).

التصرية هي ربط أخلاف (أي أثداء) الناقة والشاة وترك حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر، فيظن المشتري أن ذلك عادتها، فنهى عن التصرية عند البيع لذلك.

وقد ذهب الجمهور من العلماء إلى الأخذ بظاهر الحديث لمن اشترى شاة مصراة، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر مقابل الحليب الذي احتلبه منها.

وذهب أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن وعليه الفتوى عند الحنفية إلى أنه لا يرد البيع بعيب التصرية، بل يجب الأرش، وهو أن يدفع البائع للمشتري عوضًا عن نقصان ثمن الشاة، الذي تبين له باكتشاف العيب أنها كانت مِصَرّاةً.

وقد اشتهر عن الحنفية أنهم قدموا القياس على الحديث الصحيح، والقياس رأي، ومعلوم أنه لا رأي في مقابل النص.

والحقيقة أن لفظة قياس هنا أوهمت غير المراد، وإن استعملت في بعض كتب أصول الحنفية، فإن المراد بالقياس هو الأصل الشرعي الثابت بأدلة القرآن وَالسُنَّةِ القطعية، التي توجب المساواة في العوض. مثل قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: ١٢٦].

وهذا عمل بالنص في الموضوع مُدَعَّمًا بأصول متفق عليها في المعاملات المالية (٢٧)، نحو صنيع عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - في قصة فاطمة بنت قيس.

المثال الثالث: ما أخرجه مالك عن نافع عن ابن عمر: ان النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، إِلاَّ بَيْعَ الخِيَارِ» وهو حديث متفق عليه، (٢٨). وهذه السلسلة أصح الأسانيد وتسمى سلسلة الذهب، فقال الشافعي وأحمد بظاهر النص وهو تشريع الخيار بعد عقد البيع بعد أن يتفرق البَيِّعَانِ.

وخالف الإمام مالك راوي الحديث بهذا السند الذي هو أصح الأسانيد وكذا الحنفية، وقالوا لهما الخيار بعد إيجاب أحدهما بقوله: «بِعْتُ» مثلاً قبل قبول الآخر بقوله: «اشْتَرَيْتُ».

والسبب في ذلك أن القرآن أباح الانتفاع بالمبيع وبالثمن بمجرد العقد في قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: ٢٩] لم يقيده بما بعد المجلس، وكذلك ما قاله الإمام مالك نفسه في " الموطأ " فقال عقب رواية الحديث: «وَلَيْسَ لِهَذَا عِنْدَنَا حَدٌّ مَعْرُوفٌ، وَلاَ أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِيهِ».


(٢٥) انظر كتابنا " منهج النقد في علوم الحديث ": ص ٥٣، ٥٤. وتنبه إلى أن لفظة «صَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ» لا أصل لها في رواية الحديث.
(٢٦) انظر دراسة الحديث من كتابنا " دراسات تطبيقية في الحديث النبوي " - المعاملات -: ص ١٣٧ - ١٤١.
(٢٧) انظر التفصيل في كتابنا " دراسات تطبيقية "، وقد وضحنا هناك ميلنا مع الجمهور، ونبين هنا دفع الطعن عن الحنفية ومن وافقهم في أصل الفكرة مثل الزيدية وغيرهم.
(٢٨) انظر تخريج الحديث ودراسته في كتابنا " دراسات تطبيقية ": ص ١٥٧ - ١٦٠.

<<  <   >  >>