للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والله تعالى أعلم (١).


(١) اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حكم الحامل والمرضع على أقوال على النحو الآتي:
القول الأول: إن حكمهما حكم المريض في جميع الأحوال، سواء كان خوفهما على أنفسهما أو على ولديهما، أو على أنفسهما وولديهما، فعليهما الإفطار عند الخوف، وتقضيان بدون إطعام؛ لقول الله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فالحامل والمرضع كالمريض تماماً؛ ولحديث أنس بن مالك الكعبي - رضي الله عنه - ((إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم)) [أحمد، ٣١/ ٣٩٢، وأهل السنن، وتقدم تخريجه]، فدل على أنهما كالمسافر في الصوم تفطران عند الخوف على أنفسهما أو ولديهما، وتقضيان الصيام بدون إطعام كما يقضي المسافر، وممن قال بهذا القول: الحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والأوزاعي، والثوري، وعطاء، والزهري، وسعيد بن جبير، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه؛ لحديث أنس الكعبي المذكور آنفاً؛ لأنه لم يأمر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفارة؛ ولأنه فطر أبيح لعذر فلم يجب به كفارة، كالمريض، وممن قال بهذا المباركفوري، ونقله عن العلامة الشاه ولي الله، قال: ((والظاهر عندي أنهما في حكم المريض فيلزم عليهما القضاء فقط، والله تعالى أعلم)). قال شيخنا ابن باز رحمه الله تعليقاً على تحفة الأحوذي: ((وهذا هو الصواب))، وهو الذي يقرره رحمه الله كما سمعته في تقريراته على أحاديث المنتقى، الحديث رقم ٢١١٥، ورقم ٢١١٦، وعلى صحيح البخاري، الحديث رقم ٤٥٠٥، وعلى سنن الترمذي بشرح المباركفوري ((تحفة الأحوذي))، الحديث رقم ٧١١. وفي مجموع الفتاوى له، ١٥/ ٢٢٣ - ٢٢٨، ورجحه العلامة ابن عثيمين في الشرح الممتع، ٦/ ٣٦٢، بقوله: ((وهذا القول أرجح الأقوال عندي؛ لأن غاية ما يكون أنهما كالمريض والمسافر، يلزمهما القضاء فقط دون الإطعام)). وقال ابن عثيمين أيضاً في مجموع الفتاوى، ١٩/ ١٦٠: ((وأنا أميل إلى القول إنه ليس عليهما إلا القضاء ولا إطعام ... )). وقالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء،
١٠/ ٢١٩ - ٢٢٦: ((إن خافت الحامل على نفسها أو جنينها من الصوم أفطرت وعليها القضاء فقط، ... وكذلك المرضع إذا خافت على نفسها إن أرضعت ولدها في رمضان، أو خافت على ولدها إن صامت ولم ترضعه، أفطرت وعليها القضاء فقط، شأنها في ذلك شأن المريض الذي لا يقوى على الصوم، أو يخشى على نفسه مضرة، قال الله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة، الآية: ١٨٥].
القول الثاني: التفصيل في الحامل والمرضع، فإن خافتا على أنفسهما الضرر إذا صامتا فلهما الفطر، وعليهما القضاء لا غير، وهذا لا خلاف فيه. لأنهما بمنزلة المريض الذي يخاف على نفسه الضرر.
وإن خافتا على أنفسهما وعلى ولديهما أفطرتا وقضتا، كالحالة الأولى.
وإن خافتا على ولديهما الضرر، أفطرتا وقضتا، وأطعمتا عن كل يوم مسكيناً، وبالإطعام مع القضاء في هذه الحالة، قال به مجاهد، والإمام أحمد، والشافعي، وذكر رواية عن الإمام مالك. وأما الرواية الأخرى عن الإمام مالك ففرّق فيها بين الحامل والمرضع، فقال: الحبلى تقضي ولا تكفّر لأنها بمنزلة المريض، والمرضع تقضي وتكفّر؛ لأن المرضع يمكنها أن تسترضع لولدها، بخلاف الحامل؛ ولأن الحمل متصل بالحامل، والخوف عليه كالخوف على بعض أعضائها، وبه قال الليث.
واستدل من أوجب الكفارة مع القضاء على الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما ولم تخافا على نفسيهما، بما رواه أبو داود وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [سورة البقرة، الآية: ١٨٤]، قال: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينًا، والحبلى والمرضع إذا خافتا [قال أبو داود: يعني على أولادهما: أفطرتا وأطعمتا]. [أبو داود، برقم ٢٣١٨، ولكن ضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، ص ١٨١، فقال: ((شاذ)) وروي ذلك عن ابن عمر، ولكن الذي يظهر أن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما يقولان بالإطعام دون قضاء كما سيأتي. [انظر: شرح العمدة لابن تيمية،
١/ ٢٤٥ - ٢٤٩].
القول الثالث: الحامل والمرضع، إذا خافتا على ولديهما أو على أنفسهما، تطعمان ولا تقضيان، وبه قال ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها: ((تفطر وتطعم مكان كل يوم مسكيناً مُدّاً من حنطة)). [رواه الشافعي في مسنده،
١/ ٢٧٨، والبيهقي، ٢/ ٢٣٠، وعبد الرزاق في مصنفه، ٤/ ٢١٨، وصححه الألباني في إرواء الغليل، ٤/ ١٩ - ٢٠. وعن سعيد بن جبير، عن ابن عمر وابن عباس: ((الحامل والمرضع تفطر ولا تقضي)). وصححه الألباني في إرواء الغليل، ٤/ ٢٠.، وأخرج أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ، ص٦٥، والطبري في تفسيره، ٣/ ٤٢٧، عن ابن عباس بلفظ: ((إذا خافت الحامل والمرضع على ولدها في رمضان، قال: يفطران ويطعمان مكان كل يوم مسكيناً ولا يقضيان صوماً)).وعن ابن عباس في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قال: أثبتت للحبلى والمرضع)).أبوداود، برقم ٢٣١٧، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ٢/ ٤٨].
ولكن هذا القول ضعفه كثير من أهل العلم، حتى وإن صح عن ابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهما؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله - عز وجل - وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم أو الصيام)). [رواه أحمد وأهل السنن كما تقدم]، فدل هذا الحديث الصحيح على أن الحامل والمرضع كالمسافر في حكم الصوم تفطران وتقضيان، وقال شيخنا ابن باز بأن القول بالإطعام للحامل والمرضع بدون قضاء: ((قول ضعيف مرجوح))، وقال أيضاً: ((الصواب في هذا أن على الحامل والمرضع القضاء، وما يُروى عن ابن عباس وابن عمر أن على الحامل والمرضع الإطعام [فقط بدون قضاء] هو قول مرجوح مخالف للأدلة الشرعية، والله سبحانه يقول: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: ١٨٥]. والحامل والمرضع تلحقان بالمريض، وليستا في حكم الشيخ الكبير العاجز، بل هما في حكم المريض، فتقضيان إذا استطاعتا ذلك، ولو تأخر القضاء، وإذا تأخر القضاء مع العذر الشرعي فلا إطعام بل قضاء فقط، أما إذا تساهلت الحامل أو المرضع ولم تقضِ مع القدرة، فعليها مع القضاء الإطعام إذا جاءها رمضان الآخر ولم تقضِ تساهلاً وتكاسلاً ... )). [مجموع فتاوى ابن باز، ١٥/ ٢٢٤، ٢٢٥، و ٢٢٧].
[وانظر: في الحامل والمرضع وأحكامهما المراجع الآتية:
المغني لابن قدامة، ٤/ ٣٩٣، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، ٧/ ٣٨١، والفروع لابن مفلح، ٤/ ٤٤٦، والروض المربع بتحقيق الطيار ومجموعة من العلماء، ٤/ ٢٩٢، ونيل الأوطار للشوكاني، ٣/ ١٧٠، وشرح العمدة لابن تيمية، ١/ ٢٤٤ - ٢٥٣، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، ٧/ ٤٦، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، ٣/ ٤٠١ - ٤٠٤، وفتح الباري، لابن حجر ٨/ ١٧٩، ومجموع فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء،١٠/ ٢١٧ - ٢٣٨، ومجموع فتاوى ابن باز، ١٥/ ٢٢٣ - ٢٢٨، ومجموع فتاوى ابن عثيمين، ١٩/ ١٥٧ - ١٦٦، ومجالس شهر رمضان له، ص١٩٣، والشرح الممتع، له ٦/ ٣٥٧ - ٣٦٤، وزاد المعاد لابن القيم، ٢/ ٣٠ - ٣١].

<<  <   >  >>