للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من أقوال العلماء (١).


(١) اختلف العلماء رحمهم اللَّه تعالى في الاشتراط عند الإحرام، على ثلاثة أقوال على النحو الآتي:
القول الأول: الاشتراط عند الإحرام سنة مطلقاً، وهو مذهب الحنابلة، قال في الفروع، لابن مفلح، ٥/ ٣٢٨: ((ويستحب أن يشترط)) ((ومحلي حيث حبستني))، وقال في الإنصاف،
٨/ ١٨٧: (( ... يقول ذلك بلسانه ... وهو صحيح، فلا يصح الاشتراط بقلبه على الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، وقطع به كثير منهم، وقيل يصح؛ لأنه تابع للإحرام، وينعقد بالنية فكذا الاشتراط، وهما احتمالان مطلقان في المغني، ٥/ ٩٤، وانظر: مسائل أحمد رواية ابن هاني، ١/ ١٥٢، ورواية عبد اللَّه، ٢/ ٦٨٥، واستدلوا بقصة ضباعة رضي اللَّه عنها.
القول الثاني: الاشتراط عند الإحرام ليس بسنة مطلقاً، ولا يشرع ولا يصح، واستدلوا بقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ} [البقرة: ١٩٦]، وبقول ابن عمر رضي اللَّه عنهما، فعن سالم قال: كان ابن عمر ينكر الاشتراط في الحج، ويقول: ((أليس حسبكم سنة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إن حُبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم حلَّ من كل شيء حتى يحج عاماً قابلاً، ويهدي ويصوم إن لم يجد هدياً)). وفي لفظ: ((فإن حبس أحدكم حابس فليأتِ البيت فليطف به، وبين الصفا والمروة، ثم ليحلق، أو يقصر، ثم ليحلل وعليه الحج من قابل)). هذا لفظ النسائي في كتاب مناسك الحج، باب ما يفعل من حبس عن الحج ولم يكن اشترط، برقم ٢٧٦٨، ٢٧٦٩، والبخاري، كتاب المحصر، باب الإحصار في الحج، برقم ١٨١٠. ونسب هذا القول: للحنفية، والمالكية ابن مفلح في الفروع، ٥/ ٣٢٩.
القول الثالث: الاشتراط عند الإحرام سنة لمن يخاف المانع من إتمام النسك، من حصر مرض أو غيره، وتركه سنة لمن لم يخف، واستدلوا بقصة ضباعة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما أمرها أن تشترط على ربها لما كانت مريضة شاكية، فخاف أن يصدَّها المرض عن البيت. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه: ((ويستحب للمحرم الاشتراط إن كان خائفاً، وإلا فلا، جمعاً بين الأخبار)). [الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص ١٧٣]، وقال في موضع آخر: ((لكن المقصود بهذا اللفظ أنه أمرها بالاشتراط في التلبية، ولم يأمرها أن تقول قبل التلبية شيئاً، لا اشتراطاً ولا غيره))، وقال: ((وإن اشترط على ربه خوفاً من العارض فقال: وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، كان حسناً؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر ابنة عمه ضباعة بنت الزبير أن تشترط على ربها، لما كانت شاكية، فخاف أن يصدها المرض عن البيت ولم يكن يأمر بذلك كل من حج)). [مجموع فتاوى ابن تيمية، ٢٦/ ١٠٥، ١٠٦، ١٠٧]، وقال ابن مفلح في الفروع، ٥/ ٣٢٩: ((واستحب شيخنا الاشتراط للخائف خاصة جمعاً بين الأدلة، ونقل أبو داود: إن اشترط فلا بأس))، ويعني بشيخه: ابن تيمية رحمه اللَّه.
قال الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى عن حديث ضباعة بنت الزبير: ((فيه دلالة لمن قال: يجوز أن يشترط الحاج والمعتمر في إحرامه أنه إن مرض تحلَّل، وهو قول عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعود، وأخيرين من الصحابة - رضي الله عنهم -، وجماعة من التابعين، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وحجتهم هذا الحديث الصحيح الصريح. وقال أبو حنيفة، ومالك، وبعض التابعين لا يصح الاشتراط، وحملوا الحديث على أنها قضية عين، وأنه مخصوص بضباعة، وفي الحديث دليل على أن المرض لا يبيح التحلل إذا لم يكن اشترط في حال الإحرام، واللَّه أعلم)). [شرح النووي على صحيح مسلم، ٨/ ٣٨١ - ٣٨٢].
وقال الإمام القرطبي رحمه اللَّه: ((وبظاهر هذا الحديث قال جماعة من العلماء من الصحابة والتابعين، وغيرهم، منهم: عمر، وعلي، وابن مسعود، وهو قول أحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وللشافعي قولان، فكل هؤلاء يجوز الاشتراط في الحج، وأنه له الفسخ إذا وقع شرطه، ومنع من ذلك جماعة أخرى، وقالوا: إنه لا ينفع، منهم: ابن عمر، والزهري، ومالك، وأبو حنيفة، متمسكين بقوله تعالى: {وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لله} [البقرة: ١٩٦] وبقوله: {ولا تُبْطِلُوا
أعْمَالَكُمْ} [محمد: ٣٣]، واعتذروا عن الحديث بوجهين: أحدهما: ادّعاء الخصوص بهذه المرأة، وثانيهما: أنهم حملوه على التحلل بالعمرة؛ فإنها أرادت أن تحج، كما جاء مفسراً من رواية ابن المسيب، وهو أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر ضباعة أن تشترط، وتقول: ((اللَّهم الحج أردت، فإن تيسر وإلا فعمرة)) [البيهقي، ٥/ ٢٢٣]، وروي عن عائشة أنها كانت تقول: ((للحجِّ خرجتُ وله قصدت فإن قضيته فهو الحج، وإن حال دونه فهو العمرة)) [البيهقي، ٥/ ٢٢٢]، واللَّه أعلم. المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم، ٣/ ٢٩٥ - ٢٩٦.
وقال شيخنا ابن باز رحمه اللَّه: ((وإن خاف المحرم ألا يتمكن من أداء نسكه؛ لكونه مريضاً أو خائفاً من عدو ونحوه استحب له أن يقول عند إحرامه: ((فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني؛ لحديث ضباعة بنت الزبير ... وفائدة هذا الشرط: أن المحرم إذا عرض له ما يمنعه من تمام نسكه: من مرض، أو صد عدو، جاز له التحلل ولا شيء عليه)). [مجموع فتاوى ابن باز ١٦/ ٤٩]، وقال: ((الاشتراط يكون وقت الإحرام إذا دعت الحاجة إليه؛ لحديث عائشة رضي اللَّه عنها في قصة ضباعة بنت الزبير)). مجموع الفتاوى، ١٦/ ١٢٨.
ورجح العلامة ابن عثيمين ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وهو: أن الاشتراط سنة لمن كان يخاف المانع من إتمام النسك، ثم قال: ((وهذا القول هو الصحيح والذي تجتمع به الأدلة)) [الشرح الممتع، ٧/ ٨٠].

<<  <   >  >>