للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمًّا ... )) (١).

وكان تأخر الصحابة - رضي الله عنهم - عن النحر والحلق رغبة في أداء العمرة، وغيظاً على الكفار، ويرجون أن ينزل اللَّه الوحي على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيغيِّر ما صمَّم عليه من المعاهدة، وليس ذلك بمعصية منهم - رضي الله عنهم -، فلما رأوا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نحر ثم حلق أيقنوا أنه لا عمرة، ولا قتال، فنحروا ثم حلقوا.

وإذا قدر المحصر على الهدي فليس له الحلّ قبل ذبحه، ثم يحلق، فإن كان معه هدي قد ساقه أجزأه، وإن لم يكن لزمه شراؤه إن أمكنه، وله نحره في موضع حصره (٢).

وبيَّن شيخنا ابن باز رحمه اللَّه: أن المحصر يذبح هديه في المكان الذي أُحْصِرَ فيه، ولو خارج الحرم، ويُعطى للفقراء (٣).

وكذلك إذا كان المانع من إكمال الحج أو العمرة: مرض، أو حادث، أو ضياع نفقة، فإنه إذا أمكنه الصبر لعله يزول المانع، أو أثر الحادث، ثم يكمل صبر، وإن لم يتمكن من ذلك فهو محصر على الصحيح، يذبح، ثم

يحلق، أو يقصر، ويتحلل (٤)، كما قال سبحانه: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهُ


(١) انظر: قصة صلح الحديبية والمفاوضة العظيمة في صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابه الشروط، برقم ٢٧٣١.
(٢) المغني، لابن قدامة، ٥/ ١٩٦ - ١٩٨، ومجموع فتاوى ابن باز، ١٨/ ١٨.
(٣) مجموع فتاوى ابن باز، ١٦/ ١٥٤، و١٨/ ٧, ٩, ١٢.
(٤) اختلف العلماء رحمهم اللَّه تعالى في معنى الإحصار على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن المراد به حصر العدو خاصة دون المرض ونحوه، وهذا قول ابن عباس، وابن عمر، وأنس، وابن الزبير، وهو قول سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير - رضي الله عنهم -، وبه قال مروان وإسحاق، وهو الرواية المشهورة الصحيحة عن أحمد بن حنبل، وهو مذهب مالك والشافعي رحمهم اللَّه، وعلى هذا القول: فمن أحصر بمرض ونحوه لا يجوز له التحلل حتى يبرأ من مرضه، ويطوف بالبيت، ويسعى، ويحلق أو يقصر فيكون متحللاً بعمرة، وحجة هذا القول متركبة من أمرين:
الأمر الأول: أن الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}. [البقرة: ١٩٦] نزلت في صد المشركين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهم محرمون بعمرة عام الحديبية عام ست من الهجرة بإجماع العلماء.
الأمر الثاني: ما جاء في ذلك من الأحاديث والآثار، ومنها حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه كان يقول: ((أليس حسبكم سنة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -)) إن حُبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم يحل من كل شيء حتى يحج عاماً قابلاً فيهدي، أو يصوم إن لم يجد هدياً)) [البخاري، برقم ١٨١٠]، ومن الآثار ما رواه الشافعي في مسنده والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: ((لا حصر إلا حصر العدو)) [أضواء البيان للشنقيطي، ١/ ١٨٦ - ١٨٧، والمغني لابن قدامة، ٥/ ١٩٤ - ٢٠٣، والشرح الكبير والإنصاف مع المقنع، ٨/ ٣١٢ - ٣٢٦].
القول الثاني: المراد بالإحصار أنه يشمل ما كان من عدو، ومرض ونحو ذلك من جميع العوائق المانعة من الوصول إلى الحرم، وممن قال به: ابن مسعود، ومجاهد، وعطاء وقتادة، وعروة بن الزبير، وإبراهيم النخعي، وعلقمة والثوري، والحسن، وأبو ثور، وداود، وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد. وحجة هذا القول من جهة شموله لإحصار العدو قد تقدمت في حجة الذي قبله، وأما من جهة شموله للإحصار بمرض، فحديث الحجاج بن عمر - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من كُسِرَ أو عرج، فقد حلَّ وعليه حجة أخرى)). وفي لفظ أبي داود، وابن ماجه: ((من عرج أو كسرَ أو مرض)) [أحمد، ٣/ ٤٥٠، وأبو داود، برقم ١٨٦٢، والترمذي، برقم ٩٤٠، والنسائي، ٥/ ١٩٩، وابن ماجه، برقم ٣٠٧٧، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ١/ ٣٤٩، ٣٥٠]. ولأنه محصر، يدخل في عموم الآية، ولقصة ضباعة بنت الزبير في الاشتراط، فلو كان المرض يبيح الحل ما احتاجت إلى شرط.
القول الثالث: المراد بالإحصار: أنه ما كان من المرض، ونحوه خاصة، دون ما كان من العدو، قال الشنقيطي: ((ولا يخفى سقوط هذا القول لما قدمناه من أن الآية الكريمة نزلت في إحصار العدو عام الحديبية)) [أضواء البيان، ١/ ١٩٠]. وانظر: المغني، ٥/ ٢٠٣ - ٢٠٤، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، ٩/ ٣١٢ - ٣٢٦.
قال في الإنصاف عن اختيار القول الثاني وأن الإحصار يشمل المرض: (( ... ويحتمل أنه يجوز له التحلل كمن حصره عدو، وهو رواية عن أحمد، قال الزركشي: ولعلها أظهر، انتهى، واختاره الشيخ تقي الدين، وقال: مثله حائض تعذر مقامها، وحرم طوافها، أو رجعت ولم تطف لجهلها بوجوب طواف الزيارة أو لعجزها عنه، ولو لذهاب الرفقة، قال في الفروع: وكذا من ضل الطريق، الإنصاف، ٩/ ٣٢٥ - ٣٢٦، ورجح شيخنا ابن باز رحمه اللَّه أن الإحصار يشمل العدو والمرض، وعدم النفقة ونحو ذلك. انظر: مجموع الفتاوى له، ١٦/ ١٥٣، ١٨/ ٧، ١١، ١٨. وسمعته يقول أثناء تقريره على منتقى الأخبار، الحديث رقم ٢٦٧٨: ((أما قول ابن عباس رضي اللَّه عنهما لا حصر إلا من عدو)) فقد خالفه غيره، والصواب أنه لا ينحصر في حصر العدو، بل من ضل السبيل، أو مرض أو ضاعت نفقته فإنه ينحر هدياً ويحلق أو يقصر ثم يحل فإن لم يجد هدياً صام عشرة أيام ثم حلق أو قصر ثم تحلل، أما إذا كان يستطيع الحاج أن يذهب إلى البيت ويتحلل بعمرة فهذا هو المطلوب)). وقال في مجموع فتاويه، ١٨/ ٧، ٩، ١٢: ((إذا لم يستطع المحصر الهدي صام عشرة أيام ثم حلق)).
وقال العلامة ابن عثيمين في الشرح الممتع، ٧/ ٤٥٠: ((والصحيح في هذه المسألة أنه إذا أحصر بغير عدو كما لو كان حصر بعدو لعموم الآية: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: ١٩٦] ولم يقيد اللَّه تعالى الحصر بعدو)).
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات الفقهية، ص ١٧٧ أن الحصر يكون بالعدو والمرض أو ذهاب النفقة.

<<  <   >  >>