للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فجئت وهو بالبطحاء، فقال: ((بما أهللت؟)) قلت: أهللت كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((هل معك من هدي؟)) قلت: لا، فأمرني فطفت بالصفا والمروة، ثم أمرني فأحللت ... )). وفي لفظ للبخاري: قال أبو موسى: قدمت على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو بالبطحاء، فقال: ((أحججت؟)) قلت: نعم، قال: ((بما أهللت؟) [قال] قلت: لبيك بإهلالٍ كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أحسنت، انطلق فطف بالبيت وبالصفا والمروة ... )). وفي لفظ للبخاري: ((أحسنت، طف بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم أحلَّ)) فطفت بالبيت وبالصفا والمروة. وفي لفظ للبخاري، قال أبو موسى - رضي الله عنه -: ((بعثني رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض

قومي، فجئت ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - منيخٌ بالأبطح ... )) (١) الحديث.

فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((طف بالبيت، وبالصفا والمروة)) أمر صريح منه - صلى الله عليه وسلم - بلزوم السعي بين الصفا والمروة، وصيغة الأمر تقتضي الوجوب ما لم يقم دليل صارف عن ذلك.

وسمعت شيخنا ابن باز رحمه اللَّه يقول: ((الطواف بالصفا والمروة أمر لازم، وفرض ... وهو ركن من أركان الحج ... )) (٢) (٣).


(١) متفق عليه: البخاري، كتاب الحج، باب من أهل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم ١٥٥٩، وباب الذبح قبل الحلق، برقم ١٧٢٤، وكتاب العمرة، باب متى يحل المعتمر، برقم ١٧٩٥، وكتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن، برقم ٤٣٤٦، ومسلم، كتاب الحج، باب جواز تعليق الإحرام، وهو أن يحرم بإحرام كإحرام فلان فيصير محرماً بإحرام مثل إحرام فلان، برقم ١٢٢١.
(٢) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم ١٧٢٤، والحديث رقم ١٧٩٠.
(٣) اختلف العلماء رحمهم اللَّه تعالى في السعي بين الصفا والمروة في الحج، والعمرة، هل هو ركن من أركان الحج والعمرة لا يجبر بدم، أو هو واجب بجبر بدم، أو هو سنة لا يلزم بتركه دم، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن السعي بين الصفا والمروة: ركن من أركان الحج، والعمرة، وقال به مالك، والشافعي، وأصحابهما، وأم المؤمنين عائشة، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وهو رواية عن أحمد، قال الإمام النووي رحمه اللَّه: ((مذهب جماهير العلماء: من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم أن السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج ولا يصح إلا به، ولا يجبر بدم ولا غيره، وممن قال بهذا: مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور ... ))، شرح النووي على صحيح مسلم، ٩/ ٢٤، أما عزوه لأحمد، فهو إحدى الروايات عنه.
وقال الإمام ابن قامة رحمه اللَّه: ((واختلفت الرواية في السعي، فروي عن أحمد: أنه ركن لا يتم الحج إلا به، وهو قول عائشة، وعروة، ومالك، والشافعي ... ) المغني لابن قدامة، ٥/ ٢٣٨، واستدل أصحاب هذا القول بالأدلة التي ذكرتها في متن هذا البحث.
القول الثاني: أن السعي بين الصفا والمروة واجب يجبر بدم، قال الإمام النووي رحمه اللَّه: ((وقال أبو حنيفة: هو واجب، فإن تركه عصى، وجبره بالدم، وصح حجه))، شرح النووي، على صحيح مسلم، ٩/ ٢٥، وقال العلامة الشنقيطي: ((وممن قال: إنه واجب يجبر بدم: أبو حنيفة، وأصحابه، والحسن، وقتادة، والثوري، وبه قال القاضي من الحنابلة، وذكره النووي رواية عن أحمد، وقد رواه ابن القصار من المالكية، عن القاضي إسماعيل، عن مالك، وقال ابن قدامة في المغني: إنه أولى، وذكر النووي عن طاوس أنه قال: من ترك من السعي أربعة أشواط لزمه دم، وإن ترك دونها لزمه لكل شوط نصف صاع، وليس هو بركن، ثم قال: وهو مذهب أبي حنيفة ... وما قاله النووي: إنه مذهب أبي حنيفة: مِنْ أن ترك أقل السعي فيه صدقة بنصف صاع عن كل شوط عزاه شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته على تبيين الحقائق، شرح كنز الدقائق للحاكم الشهيد في مختصره المسمى الكافي.
ومعلوم أن مذهب أبي حنيفة في طواف الإفاضة: أن من ترك منه ثلاثة أشواط فأقل فعليه دم، وحجه صحيح، وتفريقه بين الأقل والأكثر في الطواف الذي هو ركن يدل على التفريق بينهما في السعي)). أضواء البيان، ٥/ ٢٣٠.
وقال الإمام ابن قدامة: ((وقال القاضي: هو واجب، وليس بركن، إذا تركه وجب عليه دم، وهو مذهب الحسن وأبي حنيفة، والثوري، وهو أولى؛ لأن دليل من أوجبه دل على مطلق الوجوب، لا كونه لا يتم الحج إلا به، وقول عائشة في ذلك مُعارض بقول من خالفها من الصحابة ... ))، المغني لابن قدامة، ٥/ ٢٣٩.
وحجة هؤلاء الذين قالوا: إن السعي واجب يجبر بدم، هي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف بينهما، فدل ذلك على أن الطواف بينهما نسك، وفي الأثر المروي عن ابن عباس: ((من ترك نسكاً فعليه دم)) الشنقيطي في أضواء البيان، ٥/ ٢٤٩.
القول الثالث: أن السعي بين الصفا والمروة: سنة لا يلزم بتركه دم. أضواء البيان للشنقيطي، ٥/ ٢٣٠.
قال الإمام النووي: ((وقال بعض السلف تطوع)) شرح النووي على صحيح مسلم، ٩/ ٢٥.
وقال الإمام ابن قدامة: ((وروي عن أحمد أنه سنة لا يجب بتركه دم، رُوي ذلك عن ابن عباس، وأنس، وابن الزبير، وابن سيرين؛ لقوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ونفي الحرج عن فاعله دليل على عدم وجوبه؛ فإن هذا رتبة المباح، وروي أن في مصحف أبي وابن مسعود (فلا جناح عليه أن لا يطوَّف بهما) وهذا إن لم يكن قرآناً فلا ينحط عن رتبة الخبر؛ لأنهما يرويانه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه نسك ذو عدد لا يتعلق بالبيت، فلم يكن ركناً كالرمي)) المغني، ٥/ ٢٣٩.
وقال العلامة الشنقيطي رحمه اللَّه: ((وأما حجة الذين قالوا: إنه سنة لا يجب بتركه شيء فهي قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّه فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّه شَاكِرٌ عَلِيم}. قالوا: فرفع الجناح في قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. دليل قرآني على عدم الوجوب، كما قاله عروة بن الزبير، لخالته أم المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها)) أضواء البيان، ٥/ ٢٤٧، ثم ردَّ عليهم الشنقيطي رحمه اللَّه، بجواب عائشة رضي اللَّه عنها لابن الزبير، وأن قراءة أبي وابن مسعود للآية لم تثبت قرآناً لإجماع الصحابة على عدم كتبها في المصاحف العثمانية، وأما قوله تعالى: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّه شَاكِرٌ عَلِيم} لا دليل فيه على أن السعي تطوع وليس بفرض؛ لأن التطوع المذكور في الآية راجع إلى نفس الحج والعمرة، لا إلى السعي، لإجماع المسلمين على أن التطوع بالسعي لغير الحاج والمعتمر غير مشروع والعلم عند اللَّه تعالى)) أضواء البيان، ٥/ ٢٤٩.
والصواب القول الأول قول جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، أن السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة، لا يتم الحج ولا العمرة إلا بهما، لما تقدم من الأدلة الصحيحة الصريحة في متن هذه الرسالة.
قال شيخنا ابن باز رحمه اللَّه في حكم السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة: ((ركن من أركان الحج والعمرة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((خذوا عني مناسككم))، مسلم بنحوه، برقم ١٢٩٧، والبيهقي بلفظه، ٥/ ١٢٥، وفعله يفسر قوله، وقد سعى في حجه وعمرته عليه الصلاة والسلام))، مجموع فتاوى ابن باز، ١٧/ ٣٣٥، وقد ذكر الإمام العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الجنكي الشنقيطي رحمه اللَّه أدلة الأقوال بالتفصيل، وذكر أدلة الجمهور على أن السعي ركن في الحج والعمرة فأجاد وأفاد غفر اللَّه له. انظر: أضواء البيان، ٥/ ٢٢٩ - ٢٤٩.

<<  <   >  >>