للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والتحاكم إليهما في كل الأمور، اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في

ذلك كله، وبعد الخطبة يصلون الظهر والعصر قصراً

وجمعاً في وقت الأولى بأذان واحد وإقامتين؛ لفعله (١)


(١) اختلف العلماء رحمهم اللَّه تعالى في الجمع والقصر في عرفة ومزدلفة، والقصر في منى هل يكون ذلك لجميع الحجاج المكيين وغيرهم، أم هناك فرق بين أهل مكة وغيرهم، على النحو الآتي:
أولاً: الجمع في عرفات، وفي مزدلفة، قال الإمام ابن المنذر رحمه اللَّه في الإجماع: ((ص ٧٣)): ((وأجمعوا على أن الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعرفة يوم عرفة، وكذلك من صلَّى وحده)).
وقال ابن المنذر أيضاً ص ٧٤: ((وأجمعوا على أن السنة أن يجمع الحاج بجمعٍ [أي المزدلفة] بين المغرب والعشاء)).
وقال ابن قدامة في المغني، ٥/ ٢٦٤: ((ويجوز الجمع لكل من بعرفة من مكيٍّ وغيره، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وكذلك من صلى مع الإمام، وذكر أصحابنا أنه لا يجوز الجمع إلا لمن بينه وبين وطنه ستة عشر فرسخاً إلحاقاً له بالقصر، وليس بصحيح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع فجمع معه من حضره من المكيين وغيرهم، ولم يأمرهم بترك الجمع .. ولو حُرِّم الجمع لبيَّنه لهم، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولا يُقرُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على الخطأ، وقد كان عثمان - رضي الله عنه - يتم الصلاة؛ لأنه اتخذ أهلاً، ولم يترك الجمع ... ولم يبلغنا عن أحد من المتقدمين خلاف في الجمع بعرفة ومزدلفة، بل وافق عليه من لا يرى الجمع في غيره، والحق فيما أجمعوا عليه، فلا يُعرّج على غيره)). وانظر: أيضاً: الشرح الكبير لابن قدامه، ٩/ ١٥٧].
وقال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم، ٨/ ٤٣٤: ((يشرع الجمع بين الظهر والعصر هناك في ذلك اليوم، وقد أجمعت الأمة عليه، واختلفوا في سببه، فقيل بسبب النسك، وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وقال أكثر أصحاب الشافعي: هو بسبب السفر، فمن كان حاضراً أو مسافراً دون مرحلتين كأهل مكة لم يجز له الجمع كما لم يجز له القصر ... )).
ثانياً: القصر في عرفة والمزدلفة ومنى، فقد اختلف العلماء على قولين:
القول الأول: وهو قول جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وعطاء، ومجاهد، والزهري، وابن جريج، قالوا: يتمُّ أهلُ مكة صلاتهم في عرفة، ومزدلفة، ومنى، وحجتهم تحديدهم للمسافة بأربعة برد، أو ثلاثة أيام، وعرفة، ومزدلفة، ومنى أقل مسافة من ذلك، وقالوا: من سافر دون مسافة قصر أتمَّ صلاته، هذا هو دليلهم.
القول الثاني: قول مالك، وأصحابه، والقاسم بن محمد، وسالم، والأوزاعي، قالوا: يقصر أهل مكة بعرفة، ومزدلفة، ومنى، وحجتهم ما رواه الإمام مالك بإسناده الصحيح في الموطأ
[١/ ١٤٩، برقم ١٩] عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم يقول: ((يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قومٌ سفر))، قال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار،
٢/ ٤٠٢: ((وأثر عمر رجال إسناده أئمة ثقات))، ثم صلى أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - في منى ركعتين، ولم ينقل عنه أنه قال لهم شيئاً. [انظر: أضواء البيان للشنقيطي، ٥/ ٢٦٢، والمغني لابن قدامة، ٥/ ٢٦٥، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، ٩/ ١٥٧].
قال الشنقيطي رحمه اللَّه في أضواء البيان: ٥/ ٢٦٢: ((وأظهر قولي أهل العلم عندي أن جميع الحجاج يجمعون الظهر والعصر، ويقصرون، وكذلك في جمع التأخير في مزدلفة يقصرون العشاء، وأن أهل مكة وغيرهم في ذلك سواء، ولا يخفى أن ظاهر الروايات: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجميع من معه جمعوا وقصروا، ولم يثبت شيء يدل على أنهم أتموا صلاتهم بعد سلامه: في منى، ولا مزدلفة، ولا عرفة)). ثم قال الشنقيطي رحمه لله، ٥/ ٢٦٣: ((وقد قدمنا قول من قال: إن القصر والجمع المذكور لأهل مكة من أجل النسك، والعلم عند اللَّه تعالى)).
قال الإمام ابن القيم رحمه اللَّه في زاد المعاد، ٢/ ٢٣٤: (( ... فلما أتمها [يعني خطبة يوم عرفة .. ] أمر بلالاً فأذن، ثم أقام الصلاة فصلى الظهر ركعتين أسرَّ فيهما بالقراءة، وكان يوم الجمعة، فدلّ على أن المسافر لا يصلي الجمعة، ثم أقام فصلى العصر ركعتين أيضاً ومعه أهل مكة، وصلوا بصلاته قصراً وجمعاً بلا ريب، ولم يأمرهم بالإتمام، ولا بترك الجمع، ومن قال: إنه قال لهم: ((أتموا صلاتكم فإنا قومٌ سفَرٌ))، فقد غلط فيه غلطاً بيِّناً، ووَهِمَ وَهْماً قبيحاً ... ولهذا كان أصح أقوال العلماء: أن أهل مكة يقصرون ويجمعون بعرفة)).
وسمعت شيخنا ابن باز يقول أثناء تقريره على كلام ابن القيم في زاد المعاد، ٢/ ٢٣٥: ((أهل مكة الحجاج يقصرون ويجمعون في عرفة، ومزدلفة، ويقصرون في منى مع الحجاج، والأقرب واللَّه أعلم: أن هذا من أجل شعائر الحج، لا من أجل السفر، ويحتمل أنه من أجل السفر، لكن يشكل عليه أنهم قصروا بمنى، ويجاب على ذلك: أنهم في طريقهم إلى عرفات، والأظهر واللَّه أعلم: أن هذا القصر والجمع من أجل الحج)).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه في مجموع الفتاوى، ٢٦/ ١٦٨: ((وذهب طوائف من أهل المدينة وغيرهم ومنهم مالك، وطائفة من أصحاب الشافعي، وأحمد كأبي الخطاب في عباداته الخمس، إلى أنه يقصر المكيُّون وغيرهم، وأن القصر هناك لأجل النسك، والحجة مع هؤلاء ... )). ثم رجح ذلك رحمه اللَّه تعالى، ورجح ذلك في الفتاوى أيضاً، ٢٦/ ١٣٠.

<<  <   >  >>