للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

النوع الأول: ترك الفعل المستحب خشية أن يفرض على الأمة ... ومنه أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك قيام رمضان جماعة، بعد أن قام به ليلتين أو ثلاثاً. ثم قال لهم: " إنه لم يخْفَ على َّ مكانكم، ولكن خشيت أن تفرض عليكم " (١).

ولذلك لما زالت هذه الخشية بوفاته - صلى الله عليه وسلم - وانقطاع الوحي (٢)،أعاد الصحابة – رضي الله عنهم – فعلها في المسجد في زمن عمر بن الخطاب– رضي الله عنه-.

النوع الثاني: ترك العمل المستحب خشية أن يظن البعض أنه واجب. وترك المباح لئلا يظنوا أنه مستحب أو واجب.

وهذا نوع مشابه للنوع الأول وليس منه.

ومنه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ لكل صلاة، استحباباً، وقد ترك ذلك يوم فتح مكة، فصلّى الصلوات كلّها بوضوء واحد، فقال عمر:"يا رسول الله فعلت اليوم شيئاً لم تكن تفعله"، فقال:"عمداً فعلته يا عمر " (٣) ...

ويسن الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في هذا النوع من الترك ممن يقتدى به إذا ظن توهم بعض الحاضرين شيئا من ذلك ...

النوع الثالث: الترك لأجل المشقة التي تلحق الأمة في الاقتداء بالفعل، ولو استحباباً: ومنه ترك الرمل في الأشواط الأربعة الأخيرة من الطواف ... ومن هذا النوع عند بعض الفقهاء، ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحرم للحج من بيته بالمدينة، حتى أحرم من الميقات. فلا يدل على أن الإحرام من الميقات أفضل، فهو أقل عملاً ... والراجح أنه إنما ترك الإحرام من المنزل خشية المشقة (٤) ...


(١) أخرجه البخاري في كتاب (الجمعة) (١٧)، باب (من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد) (٢٧)، (١/ ٣١٣) حديث رقم (٨٨٢)، ومسلم في كتاب (صلاة المسافرين) (٦)، باب (الترغيب في قيام الليل) (٢٥)، (١/ ٥٢٤) حديث رقم (٧٦١) من حديث عائشة – رضي الله عنها -.
(٢) أي وحي التشريع، لا مطلق الوحي؛ لحديث عيسى – عليه السلام -: (فبينما هم كذلك إذ أوحى الله إليه ياعيسى إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم ... ) الحديث.
(٣) أخرجه مسلم في كتاب (الطهارة) (٢)، باب (جواز الصلوات كلها بوضوء واحد) (٢٥)، (١/ ٢٣٢) حديث رقم (٢٧٧) من حديث بريدة – رضي الله عنه -.
(٤) فائدة: بيان أن تقصد المشقة ممنوع في الشرع: قال أبو عبد العزيز سعود الزمانان: [الذي يظهر لي أن تقصد المشقة ممنوع لما يأتي:
أولاً: لا يجوز للإنسان أن يتقصد المشقة عند أدائه لأي عبادة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: " قول بعض الناس: الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق، كما يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات والعبادات المبتدعة، التي لم يشرعها الله ورسوله، من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي – صلى الله عليه وسلم – حيث قال: " هلك المتنطعون " وقال: " لو مدّ لي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم " مثل الجوع أو العطش المفرط الذي يضر العقل والجسم، ويمنع أداء واجب أو مستحبات أنفع منه، وكذلك الاحتفاء والتعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة، مثل حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم وأن يقوم قائماً ولا يجلس ولا يستظل ولا يتكلم، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: " مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه ... " ثم قال – رحمه الله – في مجموع الفتاوى (١٠/ ٦٢٢ - ٦٢٣ (: " فأما كونه مشقاً فليس سبباً لفضل العمل ورجحانه، ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقّاً ففضله لمعنى غير مشقته، والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره، فيزداد الثواب بالمشقة ... فكثيراً ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا فيه حرج، ولا أريد بنا فيه العسر، وأما في شرع من قبلنا فقد تكون المشقة مطلوبة، وكثير من العباد يرى جنس المشقة والألم والتعب مطلوباً مقرباً إلى الله، لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون إلى الدنيا، وانقطاع القلب عن علاقة الجسد، وهذا من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم ".
ثانياً: النيات في العبادات معتبرة في الشرع، فلا يصلح منها إلا ما وافق الشرع، قال الإمام الشاطبي – رحمه الله – في الموافقات ٢/ ٢٢٢: " إذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل، فالقصد إلى المشقة باطل، فهو إذاً من قبيل ما ينهى عنه، وما ينهى عنه لا ثواب فيه، بل فيه الإثم إن ارتفع النهي إلى درجة التحريم، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض " وقال أيضا الموافقات ٢/ ٢٢٩: " ونهيه عن التشديد – أي النبي عليه الصلاة والسلام – شهير في الشريعة، بحيث صار أصلاً قطعياً، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس، كان قصد المكلف إليه مضاداً لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به، فإذا خالف قصده قصد الشارع بطل ولم يصح، هذا واضح وبالله التوفيق "
ثالثاً: باستقراء الأدلة الشرعية فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالمشاق والإعنات، لقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}، وقوله: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}، وقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} وقوله – صلى الله عليه وسلم -: " بعثت بالحنيفية السمحة "، " وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً "
رابعاً: لو قصد الشارع التكاليف بالمشقة لما حصل الترخيص، فالرخص الشرعية أمر مقطوع به، ومعلوم من الدين بالضرورة، وهي لرفع الحرج والمشقة الواقعة على المكلفين، كرخص القصر، والفطر والجمع بين الصلاتين.
خامساً: ثبت في شريعتنا ما يمنع من التكلف والتنطع في دين الله، لقوله تعالى: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} وقوله – صلى الله عليه وسلم -: " اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يملّ حتى تملوا "
سادساً: نقل الإمام الشاطبي في الموافقات ٢/ ٢١٢ الإجماع على عدم وجود التكليف بالمشاق غير المعتادة في الشريعة.
سابعاً: لو قصدت المشقة في كل مرة وداوم عليها المكلف، لوجدت مشقة غير معتادة وحرج كبير، ممّا يفضي إلى ترك العبادة بالكلية والانقطاع عنها، وهذا النوع لم تأت به الشريعة الإسلامية، فشرع الله جل وعلا لنا الرفق والأخذ من الأعمال بما لا يحصِّل مللاً، ونبّه النبي – صلى الله عليه وسلم – على ذلك فقال: " القصد القصد تبلغوا " لذلك نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن التنطع وقال: " هلك المتنطعون "
أما استدلالهم بحديث: " بني سلمة دياركم تكتب آثاركم " فالجواب عليه من وجهين:
الوجه الأول: قال الإمام الشاطبي في الموافقات ٢/ ٢٢٥: " إن هذه أخبار آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها استقراء قطعي، والظنيات لا تعارض القطعيات، فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات ".
الوجه الثاني: الحديث لا دليل فيه على قصد نفس المشقة، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ما يفسره فإنه – صلى الله عليه وسلم –: " كره أن تُعرّى المدينة قِبَل ذلك، لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها ".
قلت: فلا حجة لمن تعلق ببعض النصوص واستدل بها على تقصد المشقة في العبادات، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم – فمن زاغ عن هذا المنهج يخشى عليه في دينه، قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، والفتنة كما قال العلماء هي الشرك، نسأل الله أن يحيينا على سنة نبيه وأن يميتنا عليها إنه ولي ذلك والقادر عليه].

<<  <   >  >>