للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال تقي الدين في "مجموع الفتاوي" (١٩/ ١٦٦): (العام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به إلا بعد البحث عن تلك المسألة هل هي من المستخرج أو من المستبقى وهذا أيضا لا خلاف فيه. وإنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه أو علم تخصيص صور معينة منه هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وذكروا عن أحمد فيه روايتين وأكثر نصوصه على أنه لا يجوز لأهل زمانه ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره فان الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض).

وقد بحث هذه المسألة الشيخ عياض السلمي (١) حيث قال: (الذي يظهر لي بعد استعراض أهم الآراء وأدلتها أن الراجح هو التفريق بين العلماء المجتهدين الذين أحاطوا بغالب نصوص الشريعة، وحصلوا من العلم ما يمكنهم من معرفة مراد الشارع، وسبروا غور النصوص فعرفوا الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والعام والخاص، وعرفوا مواطن الإجماع والاختلاف، والعوام ومن يلحق بهم من المنتسبين إلى الفقه الذين أخذوا من العلم ما لا يؤهلهم للفتيا وتولي القضاء. فالقسم الأول لا ينبغي الخلاف في أن أحدهم إذا بلغته آية عامة أو حديث عام ولم يبلغه ما يخصصه، مع تمرسه بالأدلة المنقولة والمعقولة، أنه يجب عليه العمل به إذا حان وقت العمل من غير توقف، ولا يجب عليه البحث عما عساه أن يجده من مخصص أو ناسخ.

أما العوام ومن في حكمهم فليس لأحد منهم أن يفتي أو يحكم بالعموم على ظاهره؛ لأنهم ليسوا من أهل الفتيا والحكم، وليسوا مخاطبين بهما ...

ويبدو لي أن الذين نقل عنهم المنع من العمل بالعام قبل البحث عن المخصص إنما منعوه لأحد أمرين:

الأول: أنهم لا يقصدون بالبحث عن المخصص استقصاء موارد الأدلة جميعها، وإنما يقصدون مجرد التروي واسترجاع المعلومات السابقة لعرض الدليل العام عليها، فإن وجدوا فيها ما يخصصه خصصوه، وإلا عملوا به في عمومه.

وهذا ظاهر من قول أبي زيد الدبوسي: (وأما الفقيه فيلزمه أن يحتاط لنفسه، فيقف ساعة لاستكشاف هذا الاحتمال بالنظر في الأشباه، مع كونه حجة للعمل به إن عمل، لكن يقف احتياطا حتى لا يحتاج إلى نقض ما أمضاه بتبين الخلاف) (٢).

الثاني: أنهم إنما منعوا ذلك خوفا من أن يقدم كل أحد على العمل بالعموم، والحكم به، وإن كان من غير أهل الاجتهاد، ولا شك أنه لو أذن لغير المجتهدين في أن يعملوا بالعموم من غير بحث عن المخصص لتعطل كثير من نصوص الشريعة الخاصة للجهل بها، وعدم البحث عنها ... ).

والقول الثاني هو الراجح.

فرع – هل يكفى غلبة الظن بعدم المخصص:

قال ابن اللحام في "القواعد والفوائد الأصولية" (ص/١٣): (إذا قلنا على رواية اختارها أبو الخطاب وغيره يمنع العمل بالعام قبل البحث عن المخصص فهل يشترط حصول اعتقاد جازم بأنه لا مخصص أو يكفى غلبة الظن بعدمه فيه خلاف اختار القاضي أبو بكر الأول وابن سريج وإمام الحرمين والغزالي الثاني)

ونص عبارة الغزالي في "المستصفى" (ص/٢٥٧): (والمختار عندنا أن تيقن الانتفاء إلى هذا الحد لا يشترط وأن المبادرة قبل البحث لا تجوز بل عليه تحصيل علم وظن باستقصاء البحث أما الظن فبانتفاء الدليل في نفسه وأما القطع فبانتفائه في حقه بتحقق عجز نفسه عن الوصول إليه بعد بذل غاية وسعه فيأتي بالبحث الممكن إلى حد يعلم أن بحثه بعد ذلك سعي ضائع ويحس من نفسه بالعجز يقينا فيكون


(١) انظر البحث الذي نشر في مجلة البحوث الإسلامية العدد الخامس والعشرين ولقد اقتصرت على ذكر ما رجحه، ومن رام التفصيل في المسألة فعليه بالبحث المشار إليه.
(٢) فواتح الرحموت (١/ ٢٦٧).

<<  <   >  >>