للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال فيها أكثرَ من رأي، وترى بجوارهم المتعصبين على الشافعي يرون كثرة الآراء منقصة فيه، ودليلاً على عدم الوصول إلى الحق.

وذلك نقص في العلم، وقد رددنا زعمهم، وبينا أن العلم يوجب التردد في كثير من الأحيان، وأن التردد عن بينةٍ علمٌ، واليقين عن غير بينة جهل.

والحق أن الشافعي كان مخلصاً في طلب ما يعتقد أنه الحق في هذه الشريعة الغراء، والمخلص لا تستحوذ عليه فكرة، ولا يسترقُّه رأي يجمد عليه؛ فإن له مقصداً معيناً، وهو طلب العلم لله. وذلك يجعله يفحص آراءه بميزانٍ ناقدٍ كاشف، ونظرٍ مستبين فاحص، وفوق ذلك كان الشافعي ذا فكرٍ حي متحرك يسير في طلب الغايات العلمية صعداً، لا يسكن إلى غاية حتى يطلب ما وراءها.

ومن كانت هذه حاله لا يجمد على آرائه، بل يسبرها دائماً بالميزان الذي يصل إليه في طوره العلمي الأخير" (١).

وقد ذكر الشيخ أبو زهرة ثماني مسائل من فقه الشافعي له فيها أكثر من قول (٢)، وكأنه يريد بهذا أن يردّ القول بأن هذه المسائل محصورة في ست عشرة مسألة، ولذا عقب عليها قائلاً: " هذه أمثلة مما عثرنا عليه عند قراءتنا للمجموعة الفقهية المنسوبة للشافعي وتلاميذه، وهي كاشفة عما وراءها ومبينة، وإن لم تكن هي كل ما وجدناه من أقوال الشافعي رضي الله عنه " (٣).

ويبدو أن اعتبار ترديد الأقوال منقصة وقصوراً في فقه الشافعي أمر قديم، فقد وجدنا إمام الحرمين يقول في البرهان: "استبعد مستبعدون من الذين قصرت هممهم عن درك الحقائق ترديدَ الشافعي أقوالَه في المسائل؛ وتخيلوا أن ذلك حكم منه بحكمين متناقضين، وجمعٌ بين تحليل وتحريم في قضية واحدة.

وهذا جهلٌ من الظان، وعماية، وقلة دراية؛ فإن التردد الذي ذكره الشافعي نَفْيُ


(١) الشافعي - حياته وعصره: ١٨١، ١٨٢.
(٢) اقرأ هذه المسائل. السابق: ١٧٩ - ١٧٩.
(٣) السابق نفسه: ١٧٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>