للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان الموحدون في تلك الأثناء يضاعفون جهودهم للضغط على المهدية، وإرغامها على التسليم. وكان يحيى الميورقي، توقعاً لهذا الحصار، قد بالغ في اتخاذ الأهبة، وشحن المهدية بالرجال والمؤن. وكان حاكم المدينة علي بن الغازى جندياً جريئاً، ومدافعاً قوي الشكيمة، فبذل جهوداً عنيفة لرد المحاصرين، وخرج لقتالهم عدة مرات، وفي كل مرة يوقع بهم ويحرق مجانيقهم وآلاتهم ويسبب لهم خسائر شديدة، واضطر الموحدون إزاء ذلك إلى الإكثار من المجانيق والآلات، وإعداد السلالم والأبراج العالية للإشراف على المدينة، ومضاعفة الحشود حولها، واستمر الأمر على هذا المنوال، حتى وقعت معركة رأس تاجْرا، وهزم يحيى وألجىء إلى الفرار، وحمل الموحدون الغنائم والعلم الأسود إلى الناصر تحت أسوار المهدية، وقاموا بتبريز الغنائم، وتوزيعها بمشهد ظاهر من أهل المدينة المحصورة، ومع ذلك فإن الغازى وصحبه لبثوا حيناً غير مؤمنين بهزيمة يحيى، واستمرت المعارك بينهم وبين المحاصرين وقتاً، وجمع الناصر المجانيق على جهة واحدة من السور، وشدد في ضرب المدينة، فكثر القتلى والجرحى من أهلها، واضطر الغازى وصحبه أخيراً إلى طلب الأمان والتسليم، على أن يُسمح لهم باللحاق بيحيى، فوافق الناصر على طلبهم، وسلمت المدينة للناصر في اليوم السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة ٦٠٢ هـ (١١ يناير سنة ١٢٠٦ م) وغادر علي بن الغازى - وكان الموحدون يسمونه بالحاج الكافر - المدينة مع صحبه، ونزل بموضع قريب منها بنية اللحاق بيحيى، ولكنه عاد في اليوم التالي، فعدل عن هذه النية، وبعث إلى الناصر يعلن طاعته ودخوله في الدعوة الموحدية، فاغتبط الناصر بتوحيده، واستدعاه إليه، وغمره بعطفه وإكرامه، وصحبه معه فيما بعد إلى مراكش، ولما عبر الناصر البحر بعد ذلك إلى الأندلس بقصد الجهاد، سار علىٌّ معه، واشترك مع الموحدين في معركة العقاب، وقتل ضمن من قتل منهم (١).

وفي يوم عشرين من جمادى الأخرى، غادر الناصر المهدية، بعد أن عفا عن سائر أهلها، من المقاتلين وغيرهم، وأمر بترميم أسوارها، وتنظيم أمورها، وعين لها والياً هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن يغمور الهنتاني، وعين لولاية طرابلس عبد الله بن إبراهيم بن جامع. ثم سار إلى تونس، ومنها أصدر كتب الفتح، واستقر بها بقية عام اثنين وستمائة، ومعظم العام التالي.


(١) رحلة التجاني ص ٣٥٨ و ٣٥٩، وروض القرطاس ص ١٥٣ و ١٥٤، والبيان المغرب القسم الثالث ص ٢٢٠ و ٢٢١ و ٢٢٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>