للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على أن أنجع إجراء اتخذه الناصر لتأمين إفريقية هو إسناده ولايتها إلى الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر الهنتاني، وهو الظافر في معركة تاجرا. وكان أبو محمد يومئذ عميد أشياخ الموحدين، وأعلاهم مكانة، وأشدهم نفوذاً لدى الخليفة. وكان يمت إلى الخليفة بصلة النسب الوثيق، إذ كان متزوجاً أخته إبنة الخليفة المنصور. وكان الناصر يثق بحكمته، وسديد رأيه ووافر مقدرته. وقد اعتذر أبو محمد بادىء ذي بدء عن قبول هذا المنصب، وشعر أنه نوع من الإبعاد له عن البلاط، والمشاركة في الجليل من الشئون، فبعث الناصر إليه ابنه وولىّ عهده الفتى يوسف، ليقنعه بالقبول. ويفصل لنا التجاني في رحلته، ما قاله ولى العهد للشيخ، وما نوه به من أهمية إفريقية، وما ضحى به الموحدون في سبيلها من المال والرجال، وأن الخليفة لم يجد عن اختيار الشيخ معدلا، وقد أكبر الشيخ حركة الخليفة ومقدم ولى عهده، فأبدى قبوله لولاية إفريقية، بشروط خلاصتها أنه لا يبقى في منصبه إلا بقدر ما تصلح أحوال إفريقية، وينقشع خطر الميورقي عنها، وهو يقدر لذلك ثلاث سنين، وأن يختار من قوات الجيش من يرى بقاءهم معه، وألا يُسئل عن تصرفاته كائنة ما كانت، وأن يُخير في أمر الولاة الذين اختارهم الخليفة لبلاد إفريقية، فيبقى من يشاء ويعزل من يشاء، فقبل الناصر كل شروطه. ثم أزمع الرحلة إلى المغرب، فغادر تونس في السابع من شهر شوال سنة ٦٠٣ هـ، وصحبه الشيخ أبو محمد مدى ثلاثة أيام. وحدث عند خروج الناصر أن مثل بين يديه أهل تونس وأبدوا له خوفهم، من أن يعود الميورقي إلى عدوانه، بعد سفره، فاستدعى الناصر أعيانهم، وطمأنهم بوجود الشيخ أبي محمد على رأس الولاية، وأنه آثرهم بوجوده رغم شدة حاجته إليه، فاطمأن الناس لقوله واستبشروا بولاية الشيخ (١).

وسار الناصر أولا إلى تلمسان، فوصل إليها في أوائل شهر ذي الحجة، واستقر بها وقتاً، وأنفذ منها الأوامر إلى ولاة إشبيلية وقرطبة وغرناطة وبسطة وألمرية ومرسية، لموافاته مع أتباعهم، وكان عند خروجه إلى غزوته في إفريقية، قد أمر بعزل السيد أبي إسحق عن ولاية إشبيلية، وقدم عليها أخاه السيد أبا موسى. وقضى أيام عيد النحر بتلمسان، وبقى بها حتى نهاية ذي الحجة، ثم غادرها إلى مدينة فاس، ونزل بها في أوائل شهر المحرم سنة ٦٠٤ هـ، واستأنف بها النظر في


(١) رحلة التجاني ص ٣٦١ و ٣٦٢، وابن خلدون ج ٦ ص ٢٤٨ و ٢٤٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>