للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من البطولة، يذكرنا بعصور هومير السحرية، ويقدم لنا فيهم أنصاف آلهة اليونان، ولكن شيئاً لا يدوم فى هذا العالم. فإن هذا الشعب قاهر القوط، الذى كان يبدو أنه صائر خلال القرون، إلى أقصى الأجيال، قد ذهب ذهاب الأشباح، وعبثاً يسائل اليوم السائح الفريد، قفار الأندلس المحزنة، التى كان يعمرها من قبل شعب غنى منعم. ظهر العرب فجأة فى اسبانيا، كالقبس الذى يشق عباب الهواء بضوئه، وينشر لهبه فى جنبات الأفق، ثم يغيض سريعاً فى عالم العدم، ظهروا فى اسبانيا فملأوها فجأة بنشاطهم وثمار براعتهم، وأظلها كوكب من المجد شملها من البرنيه إلى صخرة طارق، ومن المحيط إلى شواطىء برشلونة. ولكن هوى يضطرم إلى الحرية والاستقلال، وخلقاً متقلباً يميل إلى الخفة والمرح، ونسيان الفضائل القديمة، وميل نكد إلى التمرد والثورة، يثيره دائماً خيال ملتهب، وشهوات وأطماع عنيفة، ونزعة إلى التغلب وغيرها، من عوامل الاضمحلال، قد عملت شيئاً فشيئاً، على هدم ذلك الصرح العتيد، الذى شاده رجال كطارق وعبد الرحمن الناصر ومحمد بن الأحمر، وأفضت بالعرب إلى خلافات داخلية، فلّت من بأسهم وحملتهم إلى هاوية الفناء.

خرج ملايين العرب من اسبانيا، حاملين أموالهم وفنونهم، ثروات الدولة، فماذا أنشأ الإسبان مكانهم؟ لا نستطيع أن نجيب، بشىء، إلا أن حزناً خالداً يغمر هذه الأرض، التى كانت من قبل تتنفس فيها أبهج الطبائع. أن ثمة بعض الآثار المشوهة ما زالت تقوم فى هذه البقاع الموحشة، ولكن صرخة حقيقية تدوى من أعماق هذه الأطلال الدارسة: الشرف والمجد العربى المغلوب، والانحلال والبؤس للإسبانى الظافر" (١).

ويقول الأستاذ لاين بول فى مقدمة كتابه عن "العرب فى اسبانيا"؛ "لبثت اسبانيا فى يد المسلمين ثمانية قرون، وضوء حضارتها الزاهرة يبهر أوربا، وازدهرت بقاعها الخصبة بمجهود الفاتحين، وأنشئت المدائن العظيمة فى سهول الوادى الكبير، فلم يبق ثمة ما يذكرنا بماضيها المجيد، سوى الأسماء والأسماء فقط - وتقدمت بها الآداب والعلوم والفنون، دون سائر الأمم الأوربية، ولم تثمر وتكتمل زهرة العلوم


(١) De Marlès: Histoire de la Domination des Arabes et des Maures en
Espagne et Portugal (redigé sur l'Histoire de M. Joseph Condé ; V. III.
p. ٤٠٤ - ٤٠٦

<<  <  ج: ص:  >  >>