للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال له: " لم أزل أسمع عنك أنك من أعقل الناس وأعرفهم بمكائد الحروب ومداراة الدنيا. فقل لى كيف حصلت في يد هذا الرجل بعد ما ملكت الأندلس، وألقيت بينك وبين هؤلاء القوم البحر الزخار، وتيقنت بعد المرام واستصعابه، واستخلفت بلاداً أنت اخترعتها، وحصل في يدك من الذخائر والأموال والمعاقل ما لو أظهرت به الامتناع ما ألقيت عنقك في يد من لا يرحمك. ثم إنك علمت أن سليمان ولي عهد وأنه الوالي بعد أخيه، وقد أشرف على الهلاك لامحالة، وبعد ذلك خالفته وألقيت بيدك إلى التهلكة، وأحقدت مالكك ومملوكك ". وما زال يزيد بسليمان حتى عفا عن موسى، وأعفاه من الغرامة الفادحة التي قضى بها عليه، ويقال بل عفا عن حياته، ولم يعفه من الغرامة، وإن موسى استطاع أن يفتدي نفسه ببعض ما فرض عليه، وإن سليمان عفا عنه بعد ذلك (١)، وأقر ابنه عبد الله على إفريقية وابنه عبد العزيز على الأندلس. وتبالغ بعض الروايات فتقول إن سليمان أصر على معاقبة موسى وتغريمه، حتى كان يطوف أحياء العرب مع حراسه ليسأل بعض المال ليفتدي نفسه، وإنه لبث على تلك الحال حتى توفي في منتهي البؤس والذلة بوادي القرى في شمال الحجاز حيث ينسب مولده، وذلك سنة سبع وتسعين (٢).

بيد أنه لا يوجد ما يبرر الأخذ بمثل هذه الرواية المغرقة. والصحيح المعول عليه أن سليمان عفا عن موسى، وأقاله من محنته؛ وتوفي موسى بعد ذلك بقليل في سنة سبع وتسعين (وقيل في سنة تسع وتسعين) وهو في طريقه إلى الحج مع سليمان، وقد جاوز الثمانين من عمره.


(١) هذه هي رواية ابن عبد الحكم (فتوح مصر ص ٢١٣). وهي رواية يؤيدها البلاذري (فتوح البلدان ص ٢٣٠).
(٢) يراجع في مصير موسى بن نصير: فتوح مصر (ص ٢١١)، وأخبار مجموعة (ص ٢٩ و٣٠)، وابن القوطية (ص ١٠ - ١١)، وابن الأثير (ج ٤ ص ٢١٦)، والمقري عن ابن حيان وابن بشكوال والحجارى، (نفح الطيب ج ١ ص ١٣٤ و١٣٥)، وابن خلكان (ج ٢ ص ١٨١)، وكذلك كتاب الإمامة والسياسة (ج ٢ ص ٨٦، ٨٩ و٩٣، ٩٦). هذا ويبدي المستشرق دوزي ريبه في صحة الروايات والقصص التي قيلت عن مصير موسى بن نصير، ويقول إنه لا يوجد ثمة ما يبررها، لأن موسى كان يتمتع بحماية يزيد بن المهلب صديق سليمان وصاحب النفوذ لديه، ويستشهد برواية البلاذري إلى أشرنا إليها، وأيضا برواية مؤرخ نصراني معاصر هو إيزيدور الباجي ( Dozy, Hist.V.I.p. ١٣٤-١٣٥)

<<  <  ج: ص:  >  >>