للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

طيبة، وكلاءة رب غفور: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} (سبأ: ١٩) فإنه يقال: مزق الثوب ولا يقال: مزق القوم، وإنما يقال: فرقهم، ولكن لما كان هذا التفريق كأنه نَزْعٌ لكل فرقة من هذه الجماعة، كما تنزع القطعة من الجسم الحي المتواصل عبر عنه بالتمزيق؛ ليشير إلى المعاناة التي عاناها هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بهذا التشتيت وهذا التفريق، وكأن علائق الود وصلات القربَى حِبال ممدودة بين هذه الجماعة، فجاء التفريق كأنه شق وتمزيق وتقطيع لهذه الأوصال، وهذا المعنى تجده ثاويًا وراء كلمة: {وَمَزَّقْنَاهُمْ} ولا تجد شيئًا منه لو قال: فرقناهم.

كذلك لو تأملنا قول الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (الأنعام: ١٢٢) فنجد أن هذه الآية من الشواهد المشهورة، وفيها نرى أن المراد بالميت الضال فقد شُبِّه به واستعير له، كما أن المراد بأحييناه هديناه، فالآية إذن تذكر حالين أو مرحلتين من مراحل حياة الإنسان؛ المرحلة الأولى: كان فيها ميتًا وهو في الثانية حي، والواقع أن هذا الإنسان كان حيًّا في الحالين، حياة بمعناها المتعارف، ولكنه لما كان منطفئ الفطرة معطل الإدراك جعل مُيتًا، وكأن غاية الحياة إنما هي في استدامة الفطرة، وسلامة النظر الراشد إلى معرفة الحق والخير. الموت هنا له مفهوم جديد، ربما كان انغماس النفس في ظلمة الحيوانية وبقاء الروح مكفوفة الإدراك، تخبط في الأرض من غير غاية نبيلة تسعى إليها؛ لتسعد بها سعادة أبدية. واضح أن الحياة في هذه المرحلة حياة وموت معًا؛ لأنه يحيا ويتقلب كما يتقلب كل حي، ولكن هنا معنى قلبي ينقصه، فَسُلِب معنى الحياة من هذه الحياة.

والضلال أيضًا له مفهوم جديد في هذه الآية وبهذه الاستعارة؛ لأنه لم يعد ضلالًا وإنما صار موتًا، كما أن الموت له أيضًا مفهوم جديد؛ لأنه ليس إبطالًا

<<  <   >  >>