للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولم يَلْق من سَرِّائها بَطْنًا إلا مَنَحته من ضَرَائها ظَهْرًا، ولم تَطُلّه منها دِيمة رَخاء، إلّا هَطلت عليه مُزْنة بَلاء؛ وحَرِيّة إذا أصبحتْ له مُنتصرة أنْ تُمْسي له خاذلة مُتَنَكِّرة، وإنْ جانبٌ منها اعذوذب واحلولى، أمرّ عليه جانب فأوْبى، وإن لَبِس امرؤ من غَضَارتها ورفاهِيتها نِعمًا، أرْهَقَتْه من نوائبها غمًّا.

ولم يُمْس امرؤ منها في جَناح أمْن، إلا أصْبح منها على قوادم خَوْف. غرارة عُرُور ما فيها، فانية فانٍ من عليها، لا خيْرَ في شيء من زادها إلاّ التّقوى، مَن أقلّ منها اسَتكثر مما يؤمّنه، ومن استكثر منها استكثر مما يُوبقه. كم واثق بها قد فَجَعَته، وذي طُمأنينة إليها قد صَرَعَته، وكم من مختال بها قد خَدَعَته، وكم ذي أبهة فيها قد صيَرَّته حَقيرًا، وذي نخْوَة فيها قد ردَّته ذليلًا، وذي تاجٍ قد كَبَّتْه لليدين والفم.

سُلطانها دُوَل، وعيشها رَنْق، وعذْبُها أجَاج، وحُلْوًها مُرّ وغِذاؤها سِمَام، وأسبابها زحام، وقِطَافها سَلَع. حَيُّها بعَرَض مَوْت، وصَحيحها بعَرَض سُقْم، ومَنيعها بعَرَض اهتضام. مَلِيكها مَسْلوب، وعزيزها مَغْلوب وسَليمها مَنْكوب، وجامعُها مَحْروب، مع أنَ مِن وَرَاء ذلك سَكراتِ الموت وزَفَرَاته، وهَوْل المُطّلع، والوُقوف بين يَدَي الحَكَم العَدْل، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم: ٣١).

ألستُم في مساكن منْ كان منكم أطولَ أعمارًا، وأوْضَح آثارًا، وأعدَ عديدًا، وأكْثَفَ جُنُودًا، وأعمَد عَتَادًا، وأصول عِمَادًا! تعبدو تُعَبِّدُوها أيِّ تَعَبُّد، وآثروها أيَ إيثار، وظَعنوا عنها بالكُرْه والصَغار! فهل بَلَغكم أنَّ الدُّنيا سَمَحَتْ لهم نَفْسًا بِفِدْية، وأغنَتْ عنهم مما قد أملتهم به! بل أثقلتهم بالفَوَادح، وضعْضَعتهم بالنوائب، وعَفرتهم للمناخر، وأعانَت عليهم رَيْبَ المَنون.

وقد رأيتم تنكُّرها لمن دانَ لها وآثرها وأَخْلَد إليها، حتى ظَعَنوا عنها لِفِراق الأبد، إلى آخِر الأمَد. هل زوَدَتهم إلا الشقاء، وأحلتهم إلا الضَّنْك، أو نوَّرَت لهم إلا بالظلمة، وأعْقَبتهم إلا النَّدامة! أفهذه تؤْثِرون، أو على هذه تَحْرصون، أو إليها

<<  <   >  >>