للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

، وخطبته مفتَتَحة بالحمد، وكتابه ـ أي القرآن الكريم ـ مفتَتَح بالحمد، هكذا عند الله في اللوح المحفوظ أن خلفاءه وأصحابه يكتبون المصحف مفتتحًا بالحمد.

* وبيده - صلى الله عليه وآله وسلم - لواء الحمد (١) يوم القيامة، ولما يسجد بين يدي ربه - عز وجل - للشفاعة، ويُؤْذَنُ له فيها، يحمد ربه بمحامد يفتحها عليه حينئذ، وهو صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (الإسراء:٧٩).وإذا قام في ذلك المقام حَمِدَه حينئذ أهل الموقف كلهم مسلمُهم وكافرُهم أولهم وآخرهم.

* وهو محمود - صلى الله عليه وآله وسلم - بما ملأ الأرض من الهدى والإيمان والعلم النافع والعمل الصالح، وفتح به القلوب، وكشف به الظُلمة عن أهل الأرض، واستنقذهم من أسر الشياطين، ومن الشرك بالله والكفر به والجهل به، حتى نال به أتباعه شرف الدنيا والآخرة، فإن رسالته وافت أهل الأرض أحوج ما كانوا إليها، فإنهم كانوا بين عُبَّادِ أوْثان وعُبَّادِ صُلْبَان وعُبَّادِ نيران وعُبَّاد الكواكب، ومغضوبٍ عليهم قد باؤوا بغضب، وحَيران لا يعرف ربًا يعبده، ولا بماذا يعبده، والناس يأكلُ بعضُهم بعضًا، مَنْ استحسن شيئًا دعا إليه، وقاتل مَن خالَفه، وليس في الأرض موضع قدم مُشرقٌ بنورِ الرسالة.

وقد نظر الله سبحانه حينئذٍ إلى أهل الأرض، فمقَتَهم عرَبَهم وعَجَمَهم إلا بقايا على آثار مِن دينٍ صحيح، فأغاث الله به البلاد والعباد، وكشف به تلك الظُلَم، وأحيا به من الجهالة، وكثر بعد القلة، وأعز به بعد الذلة، وأغنى به بعد العَيْلة، وفتح به أعينًا عُميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا، فعرف الناس ربهم ومعبودهم.

وعرَّفهم الطريق الموصل لهم إلى ربهم ورضوانه ودار كرامته، ولم يدَعْ حسنًا إلا أمرهم به، ولا قبيحًا إلا نهى عنه، كما قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّه لَيْسَ شَيْءٌ يقرِّبُكُمْ إلى الجنَّة إلا قَدْ أمَرْتُكُمْ بِهِ، ولَيْسَ شيءٌ يقرِّبُكُمْ إلى النَّارِ إلا قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْه» (حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة).

وعرَّفهم حالهم بعد القدوم على ربهم أتم تعريف، فكشف الأمر وأوضحه، ولم يدَعْ بابًا من العلمِ النافع للعباد المقرِّبِ لهم إلى ربهم إلا فتحه، ولا مشكلًا إلا بينه وشرحه، حتى هدى الله به القلوب من ضلالها وشفاها به من أسقامها، وأغاثها به من جهلها، فأي بشر أحق بأن يحمد منه - صلى الله عليه وآله وسلم - وجزاه عن أمته أفضل الجزاء.

* ومما يحمد عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - ما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق وكرائم الشيم، فإن من نظر في أخلاقه وشيمه - صلى الله عليه وآله وسلم - علم أنها خيرُ أخلاق، فإنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان أعلم الخلق،


(١) عن أَبِي سَعِيدٍ الخدري - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمَ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ». (صحيح رواه الترمذي).
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وآله وسلم -: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ) قَالَهُ إِخْبَارًا عَمَّا أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ الْفَضْلِ وَالسُّؤْدُدِ، وَتَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ الله تَعَالَى عِنْدَهُ وَإِعْلَامًا مِنْهُ لِأُمَّتِهِ لِيَكُونَ إِيمَانُهُمْ بِهِ عَلَى حَسْبِهِ وَمُوجِبِهِ، وَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ:
(وَلَا فَخْرَ) أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ الَّتِي نِلْتُهَا كَرَامَةً مِنْ اللهِ لَمْ أَنَلْهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِي وَلَا بَلَغْتُهَا بِقُوَّتِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أَفْتَخِرَ بِهَا، قَالَهُ الْجَزَرِيُّ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ اِمْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّك فَحَدِّثْ}.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مِنْ الْبَيَانِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُهُ إِلَى أُمَّتِهِ لِيَعْرِفُوهُ وَيَعْتَقِدُوهُ وَيَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ فِي تَوْقيرِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَمَا أَمَرَهُمْ اللهُ تَعَالَى بِهِ» اِنْتَهَى.
«لِوَاءُ الْحَمْدِ»:اللواء: الرَّايَةُ، وَلَا يُمْسِكُهَا إِلَّا صَاحِبُ الْجَيْشِ.
ولِوَاءُ الْحَمْدِ عِبَارَةٌ عَنْ الشُّهْرَةِ وَانْفِرَادُهُ بِالْحَمْدِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِحَمْدِهِ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَقِيقَةً يُسَمَّى لِوَاءَ الْحَمْدِ.
قُلْت (أي المباركفوري ـ صاحب تحفة الأحوذي): حَمْلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ هُوَ الظَّاهِرُ بَلْ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَارُ إِلَى الْمَجَازِ مَعَ إِمْكَانِ الْحَقِيقَةِ.
«وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ» أَيْ لِلْبَعْثِ فَلَا يَتَقَدَّمُ أَحَدٌ عَلَيْهِ بَعْثًا، فَهُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -» اهـ بتصرف من (تحفة الأحوذي).

<<  <  ج: ص:  >  >>