للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وامتُحِن يوسف - عليه السلام - بامرأة العزيز فنجح {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف:٢٣ - ٢٤).وفضل السجن على معصية الله - عز وجل - {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} (يوسف:٣٣).

• اختبار للصحابة في الولاء والبراء:

ابتُليَ الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - بأهليهم من أهل الشرك يصدون عن سبيل الله - عز وجل -، وجدوهم أمامهم في ساحة القتال فماذا كانت النتيجة.

لقد قتل أبو عبيدة أباه عبد الله بن الجراح، وهمَّ الصديق أبو بكر بقتل ولده عبد الرحمن حين دعا ابنه للمبارزة يوم بدر، وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير، وقتل عمر بن الخطاب خاله العاص بن هشام يوم بدر، وقتل حمزة وعلي وعبيدة والحارث أقرباءهم وعشيرتهم، متجردين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة. وكان هذا أبلغ ما ارتقى إليه تصور الروابط والقيم في ميزان الله.

قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة المجادلة: ٢٢).

• عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - الخليفة الفقير:

وها هو عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - يعود يومًا بعد صلاة العشاء إلى داره ـ وهو خليفة المسلمين، ميزانية الأمة بين يديه ـ يلمح بناته الصغار، فيسلم عليهن كعادته، وكنّ يسارعْن إلى تقبيله، لكنهن هَرَبْنَ هذه المرة، وهنَّ يغطين أفواههن، فقال لزوجته: ما شأنهن؟ قالت: «لم يكن لديهن ما يتعشَّيْن به سوى عدس وبصل، فكرِهْن أن تشم من أفواههن رائحة البصل».

فبكى وأجهش بالبكاء وهو يئن تحت وطأة المسؤولية، ميزانية الأمَّة تحت يديه، يقول: «يا بُنَيَّاتي أيَنْفَعُكُنَّ أنْ تَتَعَشَّيْنَ أطيبَ الطعام والشراب، وتكتَسِينَ أجمل الثياب من مال الأمة، ثم يُؤمر بأبيكُنَّ إلى النار؟».

قلن: «لا، لا»، ثم اندفعن يبكين. فلا والله لا تسمع في البيت إلا الحنين والأنين.

* لما حلَّت بعمر بن عبد العزيز سكرات الموت - رحمه الله - دخل عليه مسلمة بن عبد الملك ـ خال أولاده ـ وقال: «لقد تركت أبناءك فقراء جوعى فأوْصِ بهم إلىَّ أو إلى أحد من أهل بيتك»، وكان مُضَّجعًا قال: أسندوني، ثم صرخ: «والله ما منعت أبنائي حقًا لهم، والله لن أعطيهم ما ليس لهم، أما أن أوصي بهم إليك أو إلى غيرك فلا، إن وصيَّي وولِيِّي فيهم الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، إن بنىَّ أحد رجلين؛ إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وإما رجل مكبٌّ على المعاصي فوالله لم أكن لأقويه على معصية الله».

ثم طلب جميع أولاده وهم بضعة عشر فاجتمعوا، فنظر إليهم، ثم ذرفت عيناه دموعًا حرَّى، وقال: «أفديكم بنفسي أيها الفتية الذين تركتهم فقراء لا شيء لهم، يا بني إن أباكم خُيِّر بين أن تستغنوا ويدخل النار، أو تفتقروا ويدخل الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل النار، إن وليَّي فيكم الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، ثم تلا قوله تعالي: «تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا للذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوا فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}».

فودعهم وعزاهم بهذا، وأوصاهم بهذا الكلام ثم قال: «انصرفوا عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم».

قال الراوي: فلقد رأينا بعض أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على ثمانين فرس في سبيل الله، لأن عمر وكلَ ولدَه إلى الله - عز وجل -.

<<  <  ج: ص:  >  >>