للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التشجيع في الإسلام]

إن التشجيع رفع الإسلام شأنه إلى حد أنه جعله فريضة على غير القادر على إقامة فروض الكفاية، مثل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجهاد، طلب العلم، الولاية، الإمامة، فأمثال هذه الفروض من فروض الكفاية يقول فيها العلماء: إنها واجبة على الكفاية، إن قام بها البعض سقط الوجوب عن الآخرين، وإن لم يقم بها أحد أثموا جميعاً، يأثم القادر لأنه قصر، ويأثم غير القادر لأنه قصر فيما يستطيعه، وغير القادر على أداء هذه الفروض الكفائية يأثم أيضاً، لماذا؟ لأنه قصر فيما يستطيعه، وما الذي يستطيعه؟! يستطيع التفتيش عن القادر، وحمله على العمل، وحثه وتشجيعه وإعانته على القيام به، بل إجباره على ذلك.

فإذا: ً إذا لم يقم الفرض الكفائي يأثم القادر وغير القادر؛ يأثم القادر لأنه قادر ولم يفعل، وغير القادر لأنه لم يشجع القادر، قال الله: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:٨٤]، والتحريض هو نوع من الأنواع وأسلوب من الأساليب.

حتى عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كان يعطي بعض الموظفين أموالاً ويعطيهم أشياء من الدنيا كي ينصاعوا للإصلاحات التي كان عزم عليها في ذلك الوقت.

وسأذكر أسلوب التربية عند عمرو بن العاص الذي كل أهل الأرض في كفة، وأهل مصر في موقفهم مع عمرو بن العاص في كفة أخرى، لماذا؟ لأن لـ عمرو بن العاص دين في أعناق مصر لا يستطيعون سداده، ولو عملوا عليه ليلاً ونهاراً؛ فـ عمرو بن العاص هو الذي بسببه أشرق نور الإسلام في مصر بعد الوثنية والنصرانية والفساد كله، أشرقت هذه البلاد بنور الإسلام، ومنها انطلق غرباً وجنوباً ببركة جهاد عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه ومن معه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

ولما فتحت مصر كانت العاصمة الإسكندرية، ولا تزال آثار سور عمرو بن العاص موجودة، حتى السور الذي كان بناه للإحاطة بالإسكندرية ما زال موجوداً.

الشاهد: أن عمرو بن العاص له منة أخرى علينا فوق أنه كان سبباً في دخول أهل مصر إلى الإسلام؛ فقد صبغ لساننا باللسان العربي ولله الحمد، وفتح الله على يديه على أهل مصر بلغة القرآن الكريم، لكن عمرو بن العاص كان عالماً بشخصية الموظفين المصريين، فمنع تعيين أي موظف في الدولة الإسلامية لما فتحها -حتى من الأقباط- إلا إذا كان يتقن اللغة العربية، فبالتالي في سنوات معدودات تم -ولله الحمد- تعليم أهل مصر لغة القرآن الكريم، بينما نرى تقصير الدولة العثمانية عندما حكمت العالم الإسلامي قرابة سبعة قرون، وما عربت نفسها وللأسف الشديد، بل كانت الكتب تترجم بلغة تركيا.

فالشاهد: أسلوب التربية الذي سلكه عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه.

وقد سلك المسلمون في شتى العصور أسلوب تشجيع الموهوبين وكبيري الهمة بكافة صور التشجيع، وكانوا ينفقون الأموال الجزيلة لنفقة النابغين من طلاب العلم الذين أوقفوا أنفسهم على طلب العلم؛ كي يغنوهم عن سؤال الناس أو الاشتغال عن العلم بطلب المعاش.

الإمام أبو حيان محمد بن يوسف الغرناطي يقول فيه الصفدي: لم أره قط إلا يصنع أو يكتب أو ينظر في كتاب، ولم أره على غير ذلك، وكان له إقبال على أذكياء الطلبة يعظمهم وينوه بقدرهم، وكان المعلمون في الكتاتيب والمساجد وفي الأزهر الشريف إذا لمسوا في طفل النجابة وسرعة التعلم احتضنوه، وساعدوه على طلب العلم، وزودوه بالمال من مالهم الخاص أو من أموال الأوقاف.

وفي طليعة المشجعين لطلبة العلم الخلفاء والأمراء، روى البخاري في صحيحه أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يدخل ابن عباس رضي الله عنهما وهو غلام حدث مع أشياخ بدر، قال ابن عباس: فكأن بعضهم وجد في نفسه، وقالوا: لم لا نأت بأولادنا الصغار ونجلسهم معك؟ فلماذا تدخل ابن عباس وهو صغير في مجلس الكبار من الأشياخ الذين حضروا غزوة بدر؟ فقال بعضهم: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من حيث علمتم، أي: أنه من أهل البيت، وابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، يقول ابن عباس: فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم، فهم ابن عباس وتفطن إلى أنه هذه المرة استدعاه خصيصاً كي يري هؤلاء القوم منزلة ابن عباس، فقال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:١]، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، أي: هذه السورة فيها نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذاته الشريفة، قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:١] وذلك علامة أجلك، فقد أديت الرسالة، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:٣] أي: تأهب للقاء الله عز وجل، واختم حياتك بالتسبيح بحمد الله والاستغفار، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول.

فانظروا عمر رضي الله عنهما كيف أراد أن يقوي ثقته، وينمي همته، ويربأ فيها عن احتقار الذّات، أو الشعور بالدونية والنقص.

وروى البخاري في الصحيح أيضاً أن عمر رضي الله تعالى عنه سأل بعض الصحابة عن آية في القرآن الكريم، فلم يعرفوا الإجابة، وكان بينهم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو صغير السن، فقال ابن عباس في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين! هذا وهو صبي صغير، والكبار لم يعرفوا، قال عمر: يا ابن أخي! قل، ولا تحقر نفسك، فأجابه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فانظر عبارة: (يا ابن أخي قل، ولا تحقر نفسك).

هذه من الأسس التربوية المهمة جداً، فبعض الناس يتصور أن عمر بن الخطاب بالقوة والشدة في الدين والبأس سوف يتعامل مع الطفل بما يرعبه، لكن لا، انظر كيف كانوا كلهم أساتذة في التربية رضي الله تعالى عنهم؟! قال عمر: يا ابن أخي! قل، ولا تحقر نفسك، فمن ثم سار ابن عباس على هذه السنن منذ طفولته غير مبال بتثبيط من هو أقصر منه همة.

<<  <  ج: ص:  >  >>