للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وسنة رسوله، فقد وجد في عصره من اشتهروا بالذكاء والذاكرة والتبحر العلمي، ولكنهم كانوا أتباعا للأئمة السابقين ومذاهبهم الفقهية، ولم يقدر أحد منهم أن يستقل بآرائه ويتجرأ على الجهر باختياراته ما دام الكتاب والسنة يؤيدانها، أما شيخ الإسلام فقد درس كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وآثار السلف الصالح بكل شمولية وعمق، ثم اختار ما ترجح بالكتاب والسنة، وجهر به دون أن يبالي بالذي قاله خلافه من الأئمة السابقين، فهو تابع الدليل يدور معه حيثما دار.

وهذا الذي أشار إليه تلميذه أبو حفص البزار عندما قال: (كان لا يذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ويصلي ويسلم، ولا والله ما رأيت أحدا أشد تعظيما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحرص على اتباعه ونصر ما جاء به منه، حتى إذا كان أورد شيئا من حديثه في مسألة، ويرى أنه لم ينسخه شيء غيره من حديثه يعمل به ويقضي بمقتضاه، ولا يلتفت إلى قول غيره من المخلوقين كائنا من كان، وقال - رضي الله عنه -: (كل قائل إنما يحتج لقوله لا به، إلا الله ورسوله) (١).

وقال ابن الوردي: (له باع طويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين، قل أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأربعة، وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة، وصنف فيها واحتج لها بالكتاب والسنة). ثم قال: (وبقي سنين، لا يفتي بمذهب معين، بل بما قام الدليل عليه عنده، ولقد نصر السنة المحضة، واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون، وهابوا وجسر هو عليها، حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياما لا مزيد عليه، وبدعوه وناظروه وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المر الذي أدى إليه اجتهاده وحدة ذهنه، وسعة دائرته في السنن والأقوال) (٢).


(١) الأعلام العلية، ص / ٢٩.
(٢) تاريخ ابن الوردي ٢/ ٤٠٦، ٤١٣.