للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وعلى هذا تحمل الأحاديث والآثار الواردة في التنفير من اتخاذ الضيعة أو الاشتغال بالحرث والزرع.

فالزراعة كغيرها من المهن - لا يجوز أن يشغل بها المرء عن واجباته الشرعية أو أن يفرط في حقوق الله تعالى، أو حقوق الآدميين من أبناء وبنات وأسرة وغيرهم ممن لهم عليه حق التربية والتعليم، أو أن يستكثر منها بحيث يترك الجمعات والجماعات، وينقطع عن مجالس العلم، ومواطن التذكير، أو يقوده الربح فيها إلى الطمع والشح، وإمساك حق الفقراء بمنع الزكاة، فيكون بذلك قد ارتكب ما حرم الله تعالى، وتعدى وظلم.

قال الحافظ ابن حجر في الكلام على حديث أنس: «ما من مسلم يغرس غرسا (١)» في الحديث فضل الغرس والزرع، والحض على عمارة الأرض، ويستنبط منه اتخاذ الضيعة والقيام عليها، وفيه فساد قول من أنكر ذلك من المتزهدة وحمل ما ورد من التنفير عن ذلك على ما إذا شغل عن أمر الدين فمنه حديث ابن مسعود مرفوعا «لا تتخذوا الضيعة فتركبوا في الدنيا (٢)» قال القرطبي: يجمع بينه وبين حديث الباب - أي حديث أنس - بحمله على الاستكثار والاشتغال به عن أمر الدين، وحمل حديث الباب على اتخاذها للكفاف أو لنفع المسلمين بها وتحصيل ثوابها ا. هـ (٣).

وقد بوب البخاري رحمه الله على هذا فقال: (باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو مجاوزة الحد الذي أمر به) ثم أورد حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: وقد رأى سكة وشيئا من آلة الحرث -: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل (٤)»، وفي رواية في المستخرج: «إلا أدخلوا على أنفسهم ذلا لا يخرج عنهم إلى يوم القيامة (٥)».


(١) صحيح البخاري المزارعة (٢٣٢٠)، صحيح مسلم المساقاة (١٥٥٣)، سنن الترمذي الأحكام (١٣٨٢)، مسند أحمد بن حنبل (٣/ ٢٢٩).
(٢) سنن الترمذي الزهد (٢٣٢٨)، مسند أحمد بن حنبل (١/ ٣٧٧).
(٣) ابن حجر، فتح الباري (٥/ ٤٠١).
(٤) صحيح البخاري المزارعة (٢٣٢١).
(٥) وأما قول الأستاذ أنور الرفاعي: إننا نشك في صحة هذا الحديث لأنه يتنافى مع المبدأ الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم في تشجيع الزراعة وإحياء الموات: فأقول: لا معنى لهذا الشك والحديث في صحيح البخاري، ثم هو لا يتعارض مع المبدأ الذي سار عليه صلى الله عليه وسلم إذ مبدؤه أن لا يطغى جانب على الآخر، فتشجيعه للزراعة لا يعني الإخلاد إلى الأرض وترك الواجبات الأخرى.