للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الخاصية الرابعة

[للربا حكمته المتميزة على ظلم المدين]

لا تنحصر حكمة تحريم الربا في درء الظلم عن المدين من الفقراء، ولا نجد في نصوص القرآن والسنة ما يشير إلى أن الربا إنما يؤخذ من المقترض الفقير استغلالا لحاجته، وإذا كانت آيات الربا قد جاءت بعد آيات الصدقات، فقد تلتها مباشرة آيات الدين المؤجل الذي يقع في التجارة نسيئة وسلما، كما يقع في القرض، وقد نصت آيات الربا ذاتها في رد رءوس الأموال على مدين معسر فرضت نظرته إلى ميسرة، فافترضت مدينا آخر موسرا يجب عليه أداء رأس المال ناجزا، وفي قوله تعالى لأكل الربا: " {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} (١) يحتمل أن يكون المعنى لا تظلمون أنفسكم بمعصية أكل الربا، ولا تظلمون بنقص من رءوس أموالكم. وقد جرى أسلوب الذكر الحكيم في آيات كثيرة على اعتبار عصيان التكليف ظلما لنفس من عصى، ومن ذلك قوله جل ثناؤه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (٢) (سورة البقرة، الآية ٥٤) وقوله عز شأنه: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (٣) (سورة الطلاق، الآية ١)، ولا يتعين ما ذهب إليه المفسرون والفقهاء الذين قالوا: إن المرابين يظلمون المدين بأخذ الربا منه، وجعلوا الحكمة في تحريم الربا هي ما فيه من ظلم المدين (٤).

إذ لا يتفق ذلك وحقيقة الربا في الإسلام باعتبار مداينته معصية مشتركة بين طرفيها من دائن ومدين لا يرجع حظرها إلى منع استغلال المدين، لأن لتعرض منفعته التي يصيبها المدين، وإنما فرض الشرع التصدق بها عليه لحاجته. وإذا كان المستقرض محتاجا لا يبتغي استثمارا، وإنما يأخذ القرض لنفقته، فإن عليه أن يلجأ إلى الطرق المشروعة لسد خلته، بالرجوع على من تلزمه نفقته من الأقربين أو من بيت المال أو يتحرى صالح الأغنياء، ليصيب قرضا حسنا، فإن أعوزه كل أولئك وسعه باب التجارة الآجلة، يشتري حاجته بالنسيئة أو يبيع ما ينتظر رزقه سلما، وقد صح في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى شعيرا لطعام أهله بالنسيئة من يهودي. ارتهنه درعه ضمانا للثمن (٥)». وظاهر من محل البيع، وهو أبسط غذاء رئيسي، عظم الحاجة إلى شرائه، وقصد النبي صلى الله عليه وسلم في الاستدانة حتى لضرورات المعيشة. وفي ذلك ما يغني ذا الحاجة عن الاستدانة بالربا التي حظر الله تعالى، فإن جاوز إليها كان ظالما لنفسه، مثله كمثل من ادان منه، وليس مظلوما يتقاضاه الدائن الربا بغير نفع يعود عليه من القرض، فإن الشريعة لا تجاوز الواقع من الأمر، ولا تهدر منافع النقود حين تقترض ولا يعتبر المال في يد المقترض عقيما. فالقرض في الإسلام من عقود الإرفاق، بما يذر للمقترض من منفعة القرض تبرعا، ويظل المال طيلة قرضه تستحق عليه الزكاة، واستحقاقها بفرض نمائه. ويتضح الأمر إن


(١) سورة البقرة الآية ٢٧٩
(٢) سورة البقرة الآية ٥٤
(٣) سورة الطلاق الآية ١
(٤) إعلام الموقعين، لابن القيم، ج٢ ص٩٩و١٠٠.
(٥) صحيح البخاري البيوع (٢٠٩٦)، صحيح مسلم المساقاة (١٦٠٣)، سنن النسائي البيوع (٤٦٥٠)، سنن ابن ماجه الأحكام (٢٤٣٦)، مسند أحمد بن حنبل (٦/ ٤٢).