للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إيثاره الحق]

وكان ابن مسعود إلى جانب ذلك وقافا عند حدود الله، يترك قوله عندما يلوح له الحق في غيره، ونحن نسجل له هنا هذه الحادثة التي رواها ابن أبي شيبة في مصنفه عن الحارث بن عمير الزبيدي قال: وقع الطاعون بالشام، فقام معاذ بحمص فخطب فقال: إن هذا الطاعون رحمة بكم، ودعوة نبيكم محمد، وموت الصالحين قبلكم، اللهم اقسم لآل معاذ نصيبهم الأوفى منه، فلما نزل عن المنبر أتاه آت فقال: إن عبد الرحمن بن معاذ قد أصيب، فقال معاذ: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم انطلق نحوه، فلما رآه عبد الرحمن مقبلا قال:

{لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (١) فقال معاذ: يا بني، ستجدني إن شاء الله من الصابرين؛ فمات آل معاذ إنسانا إنسانا حتى كان معاذ آخرهم، فأصيب فأتاه الحارث بن عمير الزبيدي قال: فأغشي على معاذ غشية، قال: فأفاق معاذ والحارث يبكي، فقال معاذ: ما يبكيك؟ قال: أبكي على العلم الذي يدفن معك، قال: فإن كنت طالبا للعلم لا محالة فاطلبه من عبد الله بن مسعود، ومن عويمر أبي الدرداء، ومن سلمان الفارسي، وإياك وزلة العلم، قال: قلت: وكيف لي - أصلحك الله- أن أعرفها؟ قال: إن للحق نورا يعرف به، قال: فمات معاذ، وخرج الحإرث يريد عبد الله بن مسعود بالكوفة، فانتهى إلى بابه فإذا على الباب نفر من أصحاب عبد الله يتحدثون، فجرى بينهم الحديث، فقالوا: يا شامي أمؤمن أنت؟ قال: نعم، قالوا: من أهل الجنة؟ فقال: إن لي ذنوبا لا أدري ما يصنع الله بها، فلو أعلم أنها غفرت لي أنبأتكم أني من أهل الجنة، قال: فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم ابن مسعود فقالوا له: ألا تعجب من أخينا الشامي يزعم أنه مؤمن ولا يزعم أنه من أهل الجنة، فقال عبد الله: لو قلت إحداهما لأتبعتها الأخرى، فقال الحإرث: إنا لله وإنا إليه راجعون، صلى الله على معاذ، قال: ويحك، ومن معاذ؟ قال: معاذ بن جبل، قال: وما قال؟ قال: قال إياك وزلة العالم، فأحلف بالله إنها منك لزلة يا ابن مسعود، وما الإيمان إلا أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والميزان، وإن لنا ذنوبا لا ندري ما يصنع الله بها، فلو نعلم أنها غفرت لنا


(١) سورة يونس الآية ٩٤