للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وبين أمور الديانة والدعوة الدينية أيضا، ففي رأيه أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم، كما يلاحظ نوعا من المشابهة بين تأثير الدين وبين تأثير العصبية في الحياة الاجتماعية، وهي نظرية موفقة إلى حد كبير في إظهار أوثق أنواع الروابط الاجتماعية، وتعيين أهم أشكال التكاتف الاجتماعي في مثل تلك البيئات الجغرافية وتلك العهود التاريخية، وهي تدل على تفكير فاحص ونافذ ومحيط ومتعمق في درس الحوادث الاجتماعية وتعليل الوقائع التاريخية، كذلك تكشف نظرية ابن خلدون في الدول وأعمارها عن نظرية في التطور الاجتماعي، ذات أبعاد بيولوجية، فالدولة عنده كائن حي يتطور على الدوام وفق نظام ثابت، كما تتطور جميع الكائنات الحية (١).

فالحضارة عند ابن خلدون تتعاقب على الأمم في ثلاثة أطوار: هي طور البداوة، ثم طور التحضر، ثم طور التدهور الذي يؤدي إلى السقوط.

- فأما طور البداوة فيمثل له ابن خلدون بمعيشة البدو في الصحاري، والبربر في الجبال، والتتار في السهول، وهؤلاء عند ابن خلدون لا يخضعون لقوانين مدنية ولا تحكمهم سوى حاجاتهم وعاداتهم.

- وأما طور التحضر: فهو طور تأسيس الدولة عقب الغزو والفتح، ثم الاستقرار في المدن، والتمكن من العلوم والصناعات، وهذا الطور يقوم على الدين والعصبية - وقد عقد ابن خلدون لهذا الفصل فصلا آخر بعنوان " فصل في أن الدولة العامة الاستيلاء، العظيمة الملك، أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق".

- وأما طور التدهور: فيأتي في نهاية التحضر، بعد مرحلة الازدهار، ووصول الناس إلى مرحلة الانغماس في الترف، والتحلل في الأخلاق، وتغير العادات إلى المناكر، والتواضع عليها. ويرى ابن خلدون أن مراحل تحضر الدولة هي ذاتها عوامل تدهورها، ذلك أن الحضارة، وإن كانت غاية العمران فهي في الوقت نفسه مؤذنة بنهاية عمره، وأول هذه العوامل هو العصبية التي


(١) عن د. عفت الشرقاوي: أدب التاريخ ٣٤٢ - ٣٤٣