للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

التأريخ، لكن الذي أردت الوقوف عنده هو المكانة التي تبوأتها الفكرة الخلدونية في تفسير التأريخ، سواء في الحضارة الإسلامية أو في الفكر التأريخي الإنساني.

لقد شكلت مقدمة ابن خلدون منعرجا حاسما في كيفية فهم الإنسان لتأريخه وتقويمه له. وما يرجو منه من كشف، لا عن ماضيه فحسب، بل خاصة عن تطور الجنس الذي ينتمي إليه ومصيره.

لقد كانت الكتابة التاريخية - قبل ابن خلدون - وعلى امتداد التاريخ كله، باستثناء الشذرات التي ألمعنا إليها. . .

- كانت هذه الكتابات تنظر إلى التأريخ على أنه مجرد رواية صادقة، ووثيقة مؤكدة في نسبتها إلى صاحبها وعصرها وسلامة مضمونها، ومعلومات جزئية غايتها الإلمام بحوادث الماضي والإحصاء العددي لها. . . أجل: حاول الإنسان أولا - أن يؤرخ للحوادث البارزة، أي أن يكون لنفسه، ولعشيرته، ولقومه ذاكرة تحفظ المفاخر خاصة، وتضبط أزمانها حسب السنوات، من دون أن يحاول أن يفهم فهما عقليا عميقا ضرورة بروزها في زمن وبيئة خاصة، وسر تداخلها، ومدى تأثيره على جنسه كإنسان يقطع النظر عن النظرة الجزئية المحدودة.

- وعلى الرغم من الومضات الصادرة من حين إلى حين في بعض أحقاب التأريخ، وعلى يد بعض الأفذاذ الذين ألمعنا إليهم، فإن التأريخ بقي محصورا في دائرة الحفظ التسجيلي للوقائع، مع توخي الصدق، والتحري في الرواية.

ولعل مرحلة الصدق والتحري ودراسة الوثائق، بل الاعتماد عليها، هي أفضل ما استطاع المنهج التأريخي أن يصل إليه قبل عصر ابن خلدون.

وما إن جاء مؤرخنا المسلم العظيم حتى بدأ التأريخ - كما يقول (إيف لاكوست) ( Yves Lacaste) " يكتسي صبغته العلمية ".

- لقد فهم (ابن خلدون) علاقة التفاعل المتبادلة، التي تربط الإنسان بتأريخه. . . وقد أسماها ابن خلدون " التغلبات للبشر بعضهم على بعض "،