للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تحول مفهوم العبادة]

عرف المسلمون الأولون حقيقة معنى العبادة، فكانوا عبادا لله حقا، وكان وصف العبودية جليا في حياتهم وجميع أعمالهم، بل كانت عاداتهم عبادات. . . إذ كانوا لا يتحركون تحركا ولا يسكنون سكونا إلا ويستشعرون رضا الله عن ذلك التحرك والسكون، حتى أصبح هذا الشعور محور تحركهم، ومبعث سلوكهم، لا تشوبه شائبة، ولا يغفلون عنه لحظة.

ولما ضعف هذا المفهوم في نفوس من بعدهم، وخفت ذلك الشعور في تصرفاتهم، بعدوا عن حقيقة العبادة تدريجيا حسب بعدهم عن ذلك المحور، وانقلبت كثير من عباداتهم إلى عادات. ولقد كان هذا التحول والبعد متنوعا فيهم، ومتفاوتا بينهم. . . فهناك من المسلمين من انحصر مفهوم العبادة عندهم في جانب من جوانب الحياة، ففصلوا بين علاقة الإنسان بربه وبين علاقته مع نفسه ومع غيره. . . وحصروا معنى العبادة في علاقتهم مع الله فخرجوا بذلك عن الجادة.

وفي هذا يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله:

" جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا مسلمين إذا هم أدوا نشاط العبادة وفق أحكام الإسلام بينما هم يزاولون كل نشاط المعاملات وفق منهج آخر، ولا يتلقونه من الله ولكن من إله آخر، هو الذي يشرع لهم في شئون الحياة ما لم يأذن به الله! وهذا وهم كبير، فالإسلام وحدة لا تنفصم، وكل من يفصمه إلى شطرين - على هذا النحو - فإنما يخرج من هذه الوحدة، أو بتعبير آخر، يخرج من هذا الدين، وهذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم يريد أن يحقق إسلامه، ويريد في الوقت ذاته أن يحقق غاية وجوده الإنساني. " (١).

وهناك من المسلمين من انفصل شعورهم عن سلوكهم في أداء هذه الشعائر التعبدية، فخضعوا لله بجوارحهم، ولم يخضعوا له بمشاعرهم وقلوبهم، بل تصور كثير منهم تعبده لله نقمة عليه، وقيدا لسعادته وحريته في هذه الحياة، فتراه لا يخضع عن طواعية ورضى، أو يخضع لله فيما خضع له مجتمعه، أو اعتاد الخضوع فيه من بيئته، وهو لا يجد لهذا الخضوع معنى، ولا يحس له في نفسه أثرا. . .

مما شوه صورة العبادة في نفوس الأجيال، وأدى إلى تركها والاستكبار عنها. . . فخرج الناس عن وظيفتهم الحقيقية في هذه الحياة، وخبطوا خبط عشواء. . . مما أجهد الدعاة والوعاظ، وأوقعهم في الحيرة من أمرهم، لا يعرفون لهذا التحول الكبير سرا، ولا يجدون منه مخرجا.


(١) انظر كتاب " فقه الدعوة " ص ٦٧ وكذلك ص ٦٠، ٦١.