للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقيا له فحسن، وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لاعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد خفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة، فالأصلح أن يقام له لأن ذلك أصلح لذات البين وإزالة التباغض والشحناء، وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة فليس في ترك ذلك إيذاء له وليس هذا القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار (١)» فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء، ولهذا فرقوا بين أن يقال: قمت إليه وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد.

وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعدا من مرضه صلوا قياما أمرهم بالقعود وقال: «لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا (٢)» وقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد لئلا يتشبه بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود.

وجماع ذلك كله الذي يصلح اتباع عادات السلف وأخلاقهم والاجتهاد عليه بحسب الإمكان. فمن لم يعتقد ذلك ولم يعرف أنه العادة وكان في ترك معاملته بما اعتاد من الناس من الاحترام مفسدة راجحة فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما. انتهى كلام شيخ الإسلام ومما يزيد ما ذكره إيضاحا ما ثبت في الصحيحين في قصة كعب بن مالك لما تاب الله عليه وعلى صاحبيه رضي الله عنهم جميعا، وفيه أن كعبا لما دخل المسجد قام إليه طلحة بن عبيد الله يهرول فسلم عيه وهنأه بالتوبة ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على جواز القيام لمقابلة الداخل ومصافحته والسلام عليه ومن ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل على ابنته فاطمة قامت إليه وأخذته بيده وأجلسته مكانها وإذا دخلت عليه قام إليها وأخذ بيدها وأجلسها مكانه حسنه الترمذي.


(١) سنن الترمذي الأدب (٢٧٥٥)، سنن أبو داود الأدب (٥٢٢٩)، مسند أحمد بن حنبل (٤/ ١٠٠).
(٢) سنن أبو داود الأدب (٥٢٣٠)، مسند أحمد بن حنبل (٥/ ٢٥٣).