للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[البعث الإنسانى جسمانى روحانى]

ومما جاء فى القرآن مخالفا لما عند النصارى من عقيدة البعث والجزاء: أن الإنسان فى الحياة الآخرة يكون إنسانا كما كان فى الدنيا، إلا أن أصحاب الأنفس الزكية والأرواح العالية. يكونون أكمل أرواحا وأجسادا مما كانوا بتزكية أنفسهم فى الدنيا. وأصحاب الأنفس الخبيثة والأرواح السافلة يكونون أنقص وأخبث مما كانوا بتدسية أنفسهم فى الدنيا، ويعلم مما ثبت عن قدماء المصريين وغيرهم من الغابرين أن الأديان القديمة كانت تعلم الناس عقيدة البعث بالروح والجسد. إلا أنهم ظنوا أن أجسادهم تبقى بعد موتهم فيبعثون بها عينها، ولكن بيّن القرآن أنّ كلّ من على الأرض فان، وأنها تكون بقيام الساعة هباء منبثا، وقال علماء العقائد من أهل السّنّة إنّ بعث الأجساد يكون بعد العدم التام، وقال تعالى:

نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ [الواقعة: ٦٠ - ٦٢].

ولو كان البعث للأرواح وحدها لنقص من ملكوت الله تعالى هذا النوع الكريم المكرم من الخلق. المؤلف من روح وجسد، فهو يدرك اللذات الروحية واللذات الجسمانية، ويتحقق بحكم الله «جمع حكمه» وأسرار صنعه فيهما معا، من حيث حرم الحيوان والنبات من الأولى، والملائكة من الثانية، وما جنح من جنح أصحاب النظريات الفلسفية إلى البعث الروحانى المجرد إلا لاحتقارهم اللذات الجسدية وتسميتها بالحيوانية مع شغف أكثرهم بها، وإنما تكون نقصا فى الإنسان إذا سخّر عقله وقواه لها وحدها، وحتى صرفه اشتغاله بها عن اللذات العقلية والروحية بالعلم والعرفان أو أضعفها- وأصل هذا الإفراط والتفريط غلو الهنود فى احتقار الجسد، وجعلهم مدار تربية النفس على تعذيبه بالرياضات الشاقة، وتبعهم فيه نسّاك النصارى كما تبعوهم فى عقيدة الصّلب والفداء والتثليث، على أنهم نقلوا أن المسيح عليه السلام شرب الخمر مع تلاميذه لما ودعهم فى الفصح وقال لهم: إنى من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدا فى ملكوت أبى (متى ٦: ٢٩)؛ وجرى اليهود على عكس ذلك، وجاء الإسلام بالاعتدال فأعطى الإنسان جميع حقوقه، وطالبه بما يكون بها كاملا فى إنسانيته مرجح لروحانيته على حيوانيته، متزودا من دنياه لآخرته.

ويؤخذ مما ورد فى الآيات والأحاديث النبوية من صفة حياة الآخرة: أن القوى الروحية

<<  <   >  >>