للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تَوْكِيدِها [النحل: ٩١]، جمع بين الأمر بالإيفاء بها والنهى عن نقضها، ثم أكد ذلك بالمثل البليغ فى قوله تعالى فى الآية التى تليها: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها [النحل: ٩٢]، وقد بيناه آنفا فى مقدمة هذا المقصد، «ومنها» أنه وصف المؤمنين الأبرار بقوله فى آية البر: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا [البقرة: ١٧٧]، «ومنها» أنه عاب اليهود الذين نقضوا عهدهم مع النبى صلّى الله عليه وسلّم وجعلهم من شر الدواب [الأنفال: ٥٥، ٥٦]، «ومنها»:

أنه لما أمر بنبذ عهود المشركين الذين نقضوا عهد النبى والمؤمنين استثنى منهم المعاهدين على كونهم أهل دار واحدة فقال الله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة: ٤]، ثم قال الله تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة: ٧]، وبلغ من تأكيد الوفاء بالعهود أن الله تعالى لم يبح لنا أن ننصر إخواننا المسلمين غير الخاضعين لحكمنا على المعاهدين لنا من الكفار كما قال الله تعالى فى غير المهاجرين منهم: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ «١» [الأنفال: ٧٢]، فهل يوجد وفاء بالعهود أعظم من هذا فى حكومة دينية بأمر الله تعالى؟

[القاعدة السابعة: الجزية وكونها غاية للقتال لا علة]

قلت فى تفسير قوله تعالى فى قتال أهل الكتاب فى آية الجزية: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة: ٢٩] ما نصه:

«هذا غاية للأمر بقتال أهل الكتاب ينتهى بها إذا كان الغلب لنا، أى: قاتلوا من ذكر عند وجود ما يقتضى وجوب القتال كالاعتداء عليكم أو على بلادكم، أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم، أو تهديد أمنكم وسلامتكم وحرية دعوتكم، كما فعل الروم فكان سببا لغزوة تبوك، حتى تأمنوا عدوانهم بإعطائكم الجزية فى الحالين اللتين قيدت بهما، فالقيد الأول لهم: وهو أن تكون صادرة عن يد، أى قدرة وسعة فلا يظلمون ولا يرهقون.

والثانى لكم: وهو الصغار المراد به حصد أو كسر شوكتهم، والخضوع لسيادتكم وحكمكم، وبهذا يكون تيسير السبيل لاهتدائهم إلى الإسلام بما يرونه من عدلكم وهدايتكم وفضائلكم التى يرونكم بها أقرب إلى هداية أنبيائهم منهم، فإن أسلموا عمّ الهدى والعدل


(١) راجع تفسيرها فى صفحة ١٠٨ ج ١٠ تفسير المنار.

<<  <   >  >>