للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأمَّا أنَّ الخلافة هي مؤسسة اتفقت الجماعة على إقامتها فهو منافٍ للواقع ومخالفٌ للحقيقة؛ فالخلافة منصبٌ دينيٌّ تمتدُّ جذوره إلى عمق الشريعة، وهي مؤسَّسة شرعيَّة دعا إليها الشَّرع، ولم تتفق الأمَّة على إقامتها إلا بعد أن طلبها الشَّرع - كما سيأتي - والشَّرع مليءٌ بالأدلَّة على أنَّه نظَّم أمر الأمَّة في كل شيء، وجعل لها في كل مجال إماماً أو أميراً، بدءاً من أبسط حالات الاجتماع بين المسلمين، وانتهاءً بأعقدها. فقد أمر بتنصيب أميرٍ على الجماعة في السفر حتى ولو كانوا ثلاثة قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمِّروا أحدَهم» (١)، وأمَرَ بالإمامة في الصلاة حتى ولو كانا اثنين فقط عندما قال - صلى الله عليه وسلم - لرجلين يريدان السفر: «إذا أنتما خرجتما فأذِّنا ثم أقيما ثم ليؤمُّكما أكبركما» (٢) وهكذا في كل الأمور. وأمَّا القول بأنَّ الخليفة ينوب عن الأمة في تسيير شؤونها، فهو قولٌ صحيحٌ على ألا نقول إنَّه يستمد سلطاته منها وإنها مصدر شرعيتَّه كما هو الحال في الأنظمة الوضعيَّة (٣)، لأنَّنا حينئذ نكون قد عكسنا الحقيقة، فمهمَّة الخليفة تطبيق حكم الله في الأمَّة، لا تطبيق حكم الأمَّة في نفسها قال - عز وجل -: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} الأنعام/٥٧، يوسف/٤٠. فليس للأمَّة بمفردها أن تحكم كما تشاء، ولكن وِفْقَ إرادةِ الله المتمثِّلةِ بشرعه، ثمَّ إنك لن تجد للأمَّة رأياً موحَّداً، فللنَّاس أهواء وميول مختلفة ومتضاربة، فالخليفة في هذا مثل القاضي الذي يُعَيِّنه، فإنَّه يحكم وفق الشَّرع لا


(١) سنن أبي داود: ٢/ ٣٦ كتاب الجهاد، باب في القوم يسافرون .. رقم (٢٦٠٨) عن أبي سعيد. وصحيح ابن خزيمة: ٤/ ١٤١ رقم (٢٥٤١) عن عمر. والمستدرك: ١/ ٦١١ رقم (١٦٢٣) عن عمر وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ومسند أبي عوانة: ٤/ ٥١٤ رقم (٧٥٣٨) عن أبي سعيد. وسنن البيهقي الكبرى: ٥/ ٢٥٧ كتاب الحج، باب القوم يؤمرون أحدهم، بدون رقم عن أبي هريرة. وغيرهم.
(٢) روي عن مالك بن الحويرث في: صحيح البخاري: ١/ ٢٢٦ كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر رقم (٦٠٤). وصحيح مسلم: ١/ ٤٦٦ كتاب المساجد، باب من أحق الإمامة رقم (٦٧٤). وسنن الترمذي: ١/ ٣٩٩ كتاب الصلاة باب ما جاء في الأذان في السفر رقم (٢٠٥). وسنن النسائي: ٢/ ٨ كتاب الأذان، باب أذان المنفردين في السفر رقم (٦٣٤). والسنن الكبرى للنسائي: ١/ ٢٨٠ كتاب الإمامة والجماعة، تقديم ذي السن رقم (٨٥٦).
(٣) إن قيام المجتهدين في الدولة الإسلامية بمحاولة معرفة حكمٍ من أحكام الأمور المستجدة في وقائع الحياة المتجددة، ليس تشريعاً بالمعنى المطلق للكلمة، وليس عملُ المجتهدين في النظام الإسلامي مقابلاً للمجالس التشريعية في الأنظمة الوضعية، لأن مهمة المجتهدين هي معرفة حكم الله في واقعة معينة استناداً لأدلة شرعية كثيرة معروفة في كتب أصول الفقه وغيرها، فعملهم هو إظهار حكم الله.

<<  <   >  >>