للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كان قَد خرج من القيروان إلى الشرق سنة ١٧٢، فسمع "الموطأ" علىٍ مالك بالمدينة، ثم رحل إلى العراق، فسمِع من أصحاب أبي حنيفة وتفقَّه عليهم، وكان أكثَرُ اختلافه إلى محمد بن الحسن الشيباني، ولما حضَرَ عنده قال له: "إني غريب قليلُ النفقة، والسماعُ منك نَزْر، والطلبةُ عندك كثير كما فما حِيلتي؟ "،

فقال له محمد بن الحسن: "اسمع العراقِيِّين بالنهار، وقد جعلتُ لك الليلَ وحدَك، فتَبِيتُ عندي وأسمعك"، قال أسد: "وكنتُ أبيتُ عنده وينَزلُ إلي، ويجعلُ بين يديه قَدَحًا فيه الماء، ثم يأخذ في القراءة، فإذا طال الليل ونعَستُ، ملأ يَده ونفحَ وجهى بالماء فأنتبه، فكان ذلك دأبه ودأبي، حتى أتيتُ على ما أريدُ من السماع عليه".

وكان محمد بن الحسن يتعهده بالنفقة حِين علم أن نفقته نَفِدَتْ، وأعطاه مَرةً ثمانين دينارًا حين رآه يشرب من الماء السبيل، وأمَدَّه بالنفقة حين أراد الانصراف من العراق.

وقال عبد الرحمن بن قاسم العُتَقي المصري أحد أصحاب مالك والليث وغيرهما:

(كنتُ آتي مالكًا غَلَسًا فأسأله عن مسألتين، ثلاثة، أربعة، وكنتُ أجد منه في ذلك الوقت انشراحَ صدر، فكنت آتي كلَّ سحر.

فتوسَّدتُ مرَّةً عتبتَه، فغلبتنى عينى فنِمت، وخرَجَ مالك إلى المسجد ولم أشعر به، فركضتني جارية سوداء له برجلها، وقالت لي: "إن مولاك قد خرج، ليس يَغفُلُ كما تَغفُلُ أنت، اليوم له تسع وأربعون سنة، قلَّما صلى الصبح إلا بوضوء العتَمَة"، ظنَّت السوداء أنه مولاه من كثرةِ اختلافِه إليه.

قال ابن القاسم: (وأنختُ بباب مالك سبع عشرة سنة، ما بعتُ

<<  <   >  >>