للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال: وما هي؟ قال: تمنع قريشا أن يؤذوني وتأبى أن تؤمن بي، فقال أبو طالب:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا

فاذهب لأمرك قد زعمتك ناصحى ... فلقد صدقت وكنت ثم أمينا

وعرضت دينا قد علمت بأنه ... من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتنى سمحا بذاك يقينا

ولا يعجب القارىء من موقف أبي طالب، هذا الموقف من دعوة لا يؤمن بها، فإن في ذلك لآية من آيات الله في نصر دينه والقائمين على نشره وتمكينه، إذ يهيء الأسباب لذلك من قرب أبي طالب من صاحب الرسالة وتربيته له وشدة محبته إياه، بل إن أبا طالب ليصر على موقفه هذا حتى النهاية ويكون آخر وصيته لقومه أن يوصيهم بمحمد صلى الله عليه وسلم خيرا أو يحرضم على نصره وتأييده بل الدخول في دينه، فيروى أن أبا طالب حين حضرته الوفاة أوصى قومه وصية جامعة، ولكن كان ما فارق عليه دنياه قوله:

وأنا أوصيكم بمحمد خيرا، فإنه الأمين في قريش، والصديق في العرب، وهو جامع لكل ما أوصيكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان، وأنكره اللسان، مخافة الشنآن، وأيم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب، وأهل الوبر في الأطراف، والمستضعفين من الناس، قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وأعظموا أمره، فخاض بهم غمرات، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وضعفاؤها أربابا، وإذا أعظمهم عليه، أحوجهم إليه، وأبعدهم عنه، أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها وأصفت له فؤادها، وأعطته قيادها، يا معشر قريش: ابن أبيكم كونوا ولاة لحزبه حماة، والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد، ولو كان لنفسي مدة ولأجلي تأخير، لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهي.

وإنما بنصر الله الثابثين على الحق، الدائبين على نصره، كما قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} فإن أبا طالب ما استمات في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى رآي استماتته هو في ثباته على ما دعا إليه وإصراره على الحياة له والموت عليه، ويفسر هذا موقفه صلى الله عليه وسلم الخالد عندما رأت قريش نشاطه الفذ في بث دعوته ونشرها، ومما نال

<<  <   >  >>