للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في ترجمته: ((كان محدث الشام في وقته، ومن أعيان الفقهاء الشافعية، غلب عليه الحديث فاشتهر به، وبالغ في طلبه إلى أن جمع منه مالا يتفق لغيره، ورحل وطوف وجاب البلاد، ولقى المشايخ، وكان رفيق الحافظ أبي سعد عبد الكريم ابن السمعاني في الرحلة - وقد بلغ تعداد شيوخ السمعاني الذين لقيهم في دار الإسلام سبعة آلاف شيخ -.

وكان حافظاً ديناً، جمع بين المتون والأسانيد، سمع ببغداد، ثم رجع إلى دمشق، ثم رحل إلى خراسان، ودخل نيسابور وهراة وأصبهان والجبال، وصنف التصانيف المفيدة، وخرج التخاريج، وكان حسن الكلام على الأحاديث، محظوظا في الجمع التأليف، صنف ((التاريخ لدمشق)) في ثمانين مجلدا، أتى فيه بالعجائب، وهو على نسق ((تاريخ بغداد)) - للخطيب البغدادي، من حيث شرطه فيمن ذكرهم فيه، ولكنه أضعافه حجما واتساعا وشمولا وإفادات متنوعة -.

قال لي شيخنا الحافظ العلامة زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري حافظ مصر، وقد جرى ذكر هذا التاريخ، وأخرج لي منه مجلدا، وطال الحديث في أمره واستعظامه: ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه، وشرع في الجمع من ذلك الوقت، وإلا فالعمر يقصر عن أن يجمع فيه الإنسان مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبه (١).


(١) وقع لفظ (التنبه) محرفا إلى (التنبه) في ((وفيات الأعيان)) من طبعة مصر الميمنية سنة ١٣١٠. وتصويبه من طبعة صادر في بيروت بتحقيق إحسان عباس ٣١٠:٣. والمراد (بالاشتغال) في لغة أهل القرن الخامس وما بعده:
قيام العالم بالتدريس أو التحديث. والمراد بالتنبه: حصول نباهة الذكر والشهرة، الناشئ عنها قصد الناس والمستفيدين إليه بالسؤال والاستفادة، وفي هذا وذاك مشغلة كبيرة يصعب معها تفرغ العالم للتأليف والتحقيق والإنتاج الكثير. والحافظ ابن عساكر قد (اشتغل) و (نبه) ذكره في الآفاق، ومع هذا جاء بتآليف خصبة كثيرة، وأوسع من العمر الذي عاشه، وما ذلك إلا لحفاظه على الوقت واللحظات، فلله رده ما أمضى عزيمته! وما أشد جلده وشوقه للعلم! وما أقواه على الدخول فيما يريد، حين يريد، وكما يريد، رحمه الله تعالى عليه.

<<  <   >  >>