للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أمرها، ثم أدنيت من رءوس العالمين كقاب قوسين، فلم يبق على الأرض ظل إلا ظل رب العالمين، ولم يمكن من الاستظلال به إلا المقربون، فمن بين مستظل بالعرش وبين مضح لحر الشمس، قد صهرته بحرها، واشتد كربه وغمه من وهجها، ثم تدافعت الخلائق ودفع بعضهم بعضًا لشدة الزحام واختلاف الأقدام، وانضاف إليه شدة الخجلة والحياء من الافتضاح والاختزاء عند العرض على جبار السماء، فاجتمع وهج الشمس وحر الأنفاس واحتراق القلوب بنار الحياء والخوف، ففاض العرق من أصل كل شعرة حتى سأل على صعيد القيامة، ثم ارتفع على أبدانهم على قدر منازلهم عند الله، فبعضهم بلغ العرق ركبتيه، وبعضهم حقويه، وبعضهم إلى شحمة أذنيه، وبعضهم يكاد يغيب فيه، قال ابن عمر: قال رسول الله: "يوم يقوم الناس لرب العالمين، حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه" (١)، وقال أبو هريرة: قال رسول الله: "يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين باعًا ويلجمهم ويبلغ أذقنهم (٢) " ... واعلم أن كل عرق لم يخرجه التعب في سبيل الله -من حج وجهاد وصيام وقيام وقضاء حاجة مسلم وتحمل مشقة في أمر بمعروف ونهي عن منكر- فسيخرجه الحياء والخوف في صعيد القيامة ويطول فيه الكرب. ولو سلم ابن آدم من الجهل والغرور لعلم أن تعب العرق في تحمل مصاعب الطاعات أهون أمرًا وأقصر زمانًا من عرق الكرب والانتظار في القيامة، فإنه يوم عظيمة شدته، طويلة مدته.

[أرض المحشر]

انظر كيف يساقون بعد البعث والنشور حفاة عراة على أرض بيضاء قاع صفصف، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (١٠٥) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (١٠٧)} [طه: ١٠٥ - ١٠٧].

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرص النقي ليس فيها معلم لأحد" (٣) وعفراء: بياضها غير ناصع، وقوله: كقرص النقي: أي النقي عن القشر والنخالة، والمعلم: هو البناء.


(١) الكبائر: ٢٣.
(٢) البخاري: ٦٥٣٢.
(٣) مسلم (١٧/ ١٣٤) صفة القيامة.

<<  <  ج: ص:  >  >>