للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنَّ فِكرةَ "المَحكمة الإلهية" -التي كانت فكرةَ مشتركةَ بين اليهود والمسيحيين- قد أرَّقت محمدًا، واقَضَّتْ مَضْجَعَه إذن منذ البداية، ولكن اليهودَ والمسيحيين كانوا قد عَرفوا عن طريقِ الوحي يقينيَّةَ يوم الحساب، وليس هذا فحسب، بل عَرفوا أيضًا الأوامرَ التي أعطَتْهم مراعاتُها اليقينَ بأنهم سيكونون من الناجِين في يوم الحساب، (أما العرب فلم يأتهم نذير) {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص: ٤٦].

ولم تكنِ المساواةُ التي أقرَّها محمدٌ بين الشعوبِ أو الأجناسِ والطوائفِ الدينيةِ تَسمحُ له بالاعتقادِ بأن وَحيًّا مِن هذا الوَحيِ السابقِ (في اليهودية والمسيحية) كان مقرَّرًا لشعبهِ أو مقرَّرًا له هو، فكيف إذن يَتجنَّبُ محمدٌ وقومه العذابَ المقيم؟.

لقد أجابت عن هذه القضيةِ الحياتية "المصيرية" آياتُ القرآن التي يُنظَرُ إليها بالإجماع على أنها أقدمُ الآياتِ، سواءٌ من جانبِ المسلمين الأصوليين


= إلي هذه الإثارةِ العاطفيةِ، نظراً لتحجُّرها وجُمودها وانغلاقها، وقد سَجَّل الوحيُ المكي ذلك في قوله تعالي: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: ١٧٩] ومن هنا كان حديثُ القرآنِ عن نهايةِ العالَم ويوم القيامة بأوصاف "الزلزلة، والقارعة، والراجفة، والصاخَّة، والطامَّة الكبري". وبعد أن فتح اللهُ القلوب الغُلْفَ والآذانَ الصُم والأعينَ العُمْيَ، ودَخَل الناسُ في دين الله أفواجًا، لم يكن القرآنُ في حاجةٍ إلى تكرير نفسِ الأسلوب، فلكل مَقامٍ مَقال، ولكن هذا الأسلوبَ سيظل أيضًا قائمًا في كل العصور للقلوب التي يُصيبُها الوَهْنُ والعقولِ التي يَعتريها الغرور، فيكون عِلاجًا مستمرًّا ناجعًا لأمراض القلوب.

<<  <  ج: ص:  >  >>