للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان بقيَّةُ قريشٍ إذا جَلَسوا آذَوْه، وكان لأبي مُعيطٍ خليلٌ غائبٌ عنه بالشام، فقالت قريشٌ: صَبَأَ أبو مُعَيط. وقدِم خليلُه من الشام ليلاً، فقال لامرأتِه: ما فَعَل محمدٌ مما كان عليه؟ فقالت: أشدُّ مما كان أمرًا. فقال،: ما فَعَل خليلي أبو مُعَيط؟ فقالت: صبَأ. فبات بليلةِ سَوءٍ، فلما أصبَح أتاه أبو مُعَيط فحَيَّاه، فلم يرُدَّ عليه التحيةَ، فقال: ما لكَ لا تَرُدُّ علي تحيتي؟ فقال: كيف أَرُدُّ عليك تحيتَك وقد صَبَوتَ؟ قال: أَوَ قَدْ فَعَلَتْها قريش؟ قال؟ نعم. قال: فما يُبرئُ صُدورَهم إِنْ أنا فعلتُ؟ قال: تأتيه في مَجلِسِه فتبزُقُ في وجهه، وتشتُمُه بأخبثِ ما تعلمُ من الشَّتْم. ففعل، فلم يَزد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أن مَسَح وجهه من البُزاق، ثم التفت إليه فقال: "إنْ وَجَدْتُك خارجًا من جبال مكة أضرب عُنُقَك صبْرًا". فلمَّا كان يومُ بدرٍ وخَرَج أصحابُه، أبى أن يخرجَ، فقال له أصحابه: اخرجْ معنا. قال: قد وَعَدَني هذا الرجل إن وَجَدَني خارجًا من جبال مكةَ أن يضربَ عُنُقي صبرًا (١). فقالوا: لك جَمَلٌ أحمرُ لا يُدرَك، فلو كانتِ الهزيمةُ طِرْتَ عليه، فخرج معهم، فلما هَزَم اللهُ المشركين، وَحَل (٢) به جَمَلُه في جَدَدٍ (٣) من الأرض، فأخذه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أسيرًا في سبعينَ مِن قُرَيْش، وقدِم إليه أبو مُعَيط، فقال: أتقتلُني مِن بين هؤلاء؟ قال: "نعم، بما بزَقْتَ في وَجْهي"، فأنزل الله في أبي مُعَيْط: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ}، هو، إلى قوله: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ


(١) كُل مَن قُتِل في غير معركة ولا حرب ولا خطأ، فإنه مقتول صبراً. "النهاية" (٣/ ٨).
(٢) الوحل: الطين الرقيق، ووحل الوجل: أي وقع في الوحل.
(٣) الجَدد: ما استوى من الأرض. "النهاية" (٥/ ١٦٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>