للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في باطني زنار، فعملت في قطعه خمس سنين، انظر كيف أقطع، فكشف لي، فنظرت إلى الخلق، فرأيتهم موتى فكبرت عليهم أربع تكبيرات" (١).

إنّ هذا الجهد الذي بذله هذا السالك جهد مضن طويل، وما أظنّه فعل شيئًا، ذلك أن الإنسان مفطور على أن يطلب ما تقوم به حياته، من مطعم ومشرب ومنكح، فإذا رام الإنسان أن يمحو هذه النوازع والغرائز والميول، فإنه يكون قد رام محالا، وسعى فيما لا يمكن تحقيقه. يقول الحارث المحاسبي في هذا: "فإنّما أمر العباد بمجاهدة أهوائهم، ولم يؤمروا ألّا يكون في النفس غريزة تدعوه إلى شهوة" (٢).

ولو كلفنا بذلك لكان تكليفا بما لا يطاق، وقد قرَّر الشاطبي هذه البدهية حيث يقول: "الأوصاف التي طبع عليها الِإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب لا يطالب برفعها، ولا بإزالة ما غرز في الجبلة منها، فإنّه من تكليف ما لا يطاق، كما لا يطالب بتحسين ما قبح من خلقة جسمه، ولا تكميل ما نقص منها، فإنّ ذلك غير مقدور للِإنسان، ومثل هذا لا يقصد الشارع طلبا له، ولا نهيا عنه" (٣).

وقد أدّى العمل على النحو الذي يقتضيه هذا الاتجاه إلى حدوث صراع نفسي في نفوس العاملين به، كانت له آثار سيئة، ذلك أنّهم يحاولون كبت نوازع الفطرة، ويطلبون محوها وإزالتها، وهذا أمر مستحيل، فدفعة الجسد قوّية عنيفة، وهي لا تفتأ تلح على الِإنسان، وتضغط عليه ليستجيب لها، فإذا وقع الِإنسان بين ضغط الغريزة الدائم الملحاح، وبين ما يعتقد أنَّه سمو وكمال، وهو محاربة هذه الميول وخنقها في أعماق النفوس، فالنتيجة الحتمية أن يدمّر الصراع الثائر بين الدوافع والكوابح نفس صاحبه، ويوهن قواه، ويشتت فكره، ويملأ القلب حيرة وقلقا.

ولقد سار في هذا السبيل أقوام من قبل فدمَّروا أنفسهم، فالبوذية ترى أن "سبيل


(١) الغنية ٢/ ١٥٩.
(٢) الرعاية ص ٢٠٨.
(٣) الموافقات ٢/ ٧٦.

<<  <   >  >>