للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلما قال ذلك عظمت مروءته عندي، وعلمت أن نخوته أجل مما بذل، فتناولت العود فأصلحته، وقد مر بخاطري ذكر أهلي وولدي، فقلت:

وعسى الذي أهدى ليوسف أهله ... وأعزه في السجن وهو غريب

أن يستجيب لنا فيجمع شملنا ... فالله رب العالمين قريب

فقال: يا سيدي اجعل ما تغنيه مما أقتضيك به.

قلت: نعم. فقال: غن لي:

إن الذي عقد الذي انعقدت به ... عقد المكاره، فهو يملك حلها

فاصبر، فإن الله يعقب راحةً ... فلعلها أن تنجلي، فلعلها

فحسن عندي اقتراحه وشربت، ثم قال لي: غن لي:

وراء مضيق الخوف متسع الأمن ... وأول مفروح به آخر الحزن

فلا تيأسن فالله ملك يوسفاً ... خزائنه بعد الخلاص من السجن

ففرح وشرب وشربت، وقال: غن لي:

إذا الحادثات بلغن النهى ... وكادت لهن تذوب المهج

وحل البلاء وقل العزاء ... فعند التناهي يكون الفرج

وغنيته وحسن في نفسي اقتضاؤه، وأنست به، واستظرفته، ثم قال: إن رأيت يا سيدي أن تأذن لي أن أغني ما خطر ببالي، وإن كنت من غير أهل الصناعة؟ فقلت: يكون ذلك زيادةً في أدبك ومروءتك.

فأخذ العود، ثم قال: دستور، ثم ضرب عليه، وغنى يقول:

شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا ... فقالوا لنا: ما أقصر الليل عندنا

وذاك لأن النوم يغشى عيونهم ... سريعاً ولا يغشى لنا النوم أعينا

إذا ما دنا الليل المضر بذي الهوى ... جزعنا، وهم يستبشرون إذا دنا

فلو أنهم كانوا يلاقون مثل ما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا

فقلت: والله ذهب عني كل ما كان عندي من الفزع وسألته أن يغني، فغنى يقول:

تعيرنا أنا قليلٌ عديدنا ... فقلت لها: إن الكرام قليل

وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز، وجار الأكثرين ذليل

وإنا لقوم لا نرى الموت سبةً ... إذا ما رأته عامرٌ وسلول

<<  <   >  >>