للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم انصرفت فوالله أصلح الله الأمير ما أكلت طيباً إلا غصصت به لذكرها وما رأيت حسناً إلا سمج في عيني لحسنها.

فقال سيلمان: يا أبا زيد، كاد الجهل يستفزني، والصبا يعاودني، والحلم يعزب عني لشجو ما سمعت. اعلم يا أبا زيد أن تلك الجارية التي رأيتها هي الذلفاء التي قيل فيها:

كأنما الذلفاء ياقوتة ... قد أخرجت من كيس دهقان

شراؤها على أخي بألف ألف درهم، وهي عاشقة لمن باعها والله إن مات إنما يموت بحبها، ولا يدخل القبر إلا بغصتها، وفي الصبر سلوة وفي توقع الموت هيبة، قم يا أبا زيد في دعة الله، يا غلام! ثقله ببدرة.

فأخذتها وانصرفت. قال: فلما أفضت الخلافة له صارت إليه الذلفاء فأمر بفسطاط فأخرج على دهناء الغوطة وضرب في روضة خضراء موثقة زهراء ذات حدائق بهجة تحتها أنواع الزهر من أصفر فاقع وأحمر ساطع وأبيض ناصع، وكان لسليمان مغن يقال له سنان، كان به يأنس وإليه يسكن فأمره أن يضر فسطاطه بالقرب منه. فكانت الذلفاء قد خرجت مع سليمان إلى ذلك المنتزه فلم يزل في أكل وشرب وسرور وأتم حبور إلى أن انصرف شيء من الليل فذهب إلى فسطاطة، وذهب سنان أيضاً فنزل به جماعة من إخوانه فقالوا له: تزيد قرى أصلحك الله؟ قال: وما قراكم؟ قالوا: أكل وشرب وسماع.

قال: أما الأكل والشرب فمباحان لكم، وأما السماع فقد عرفتم غيرة أمير المؤمنين ونهيه إلا ما كان في مجلسه.

قالوا: لا حاجة لنا بطعامك وشرابك إن لم تسمعنا.

قال: فاختاروا صوتاً واحداً أغنيكموه.

قالوا: غننا بصوت كذا وكذا.

قال: فشرع يتغنى بهذه الأبيات:

محجوبة سمعت صوتي فأرقها ... من آخر الليل لما نبه السحر

في ليلة البدر ما يدري مضاجعها ... أوجهها عنده أم عنده القمر

لم يحجب الصوت حراس ولا غلق ... فدمعها لطروق الصوت ينحدر

<<  <   >  >>