للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ: عَلَيْكَ بِالْعِيرِ لَيْسَ دُونَهَا شَيْءٌ، فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ وَهُوَ أَسِيرٌ فِي وَثَاقِهِ: لَا يَصْلُحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَهْ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَكَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَقَدْ أَعْطَاكَ مَا وَعَدَكَ (١) .

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} أَيْ مُجْتَمِعِينَ مُتَزَاحِمِينِ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَالتَّزَاحُفُ: التَّدَانِي فِي الْقِتَالِ: وَالزَّحْفُ مُصْدَرٌ؛ لِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ، كَقَوْلِهِمْ: قَوْمٌ عَدْلٌ وَرِضَا. قَالَ: اللَّيْثُ: الزَّحْفُ جَمَاعَةٌ يزحفون إلى عدولهم بِمَرَّةٍ، فَهُمُ الزَّحْفُ وَالْجَمْعُ: الزُّحُوفُ. {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} يَقُولُ: فَلَا تُوَلُّوهُمْ ظُهُورَكُمْ، أَيْ تَنْهَزِمُوا فَإِنَّ الْمُنْهَزِمَ يُوَلِّي دُبُرَهُ.

{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} ظَهْرَهُ، {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} أَيْ مُنْعَطِفًا يَرَى مِنْ نَفْسِهِ الِانْهِزَامَ، وَقَصْدُهُ طَلَبُ الْغِرَّةِ وَهُوَ يُرِيدُ الْكَرَّةَ، {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} أَيْ: مُنْضَمًّا صَائِرًا إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [يُرِيدُ] (٢) الْعَوْدَ إِلَى الْقِتَالِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ النَّهْيُ عَنِ الِانْهِزَامِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالتَّوَلِّي عَنْهُمْ، إِلَّا عَلَى نِيَّةِ التَّحَرُّفِ لِلْقِتَالِ وَالِانْضِمَامِ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَسْتَعِينَ بِهِمْ وَيَعُودُونَ إِلَى الْقِتَالِ، فَمَنْ وَلَّى ظَهْرَهُ لَا عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ لَحِقَهُ الْوَعِيدُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: هَذَا فِي أَهْلِ بَدْرٍ خَاصَّةً، مَا كَانَ يَجُوزُ لَهُمُ الِانْهِزَامُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ يَتَحَيَّزُونَ إِلَيْهَا دُونَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوِ انْحَازُوا لَانْحَازُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ فِئَةٌ لِبَعْضٍ (٣) فَيَكُونُ الْفَارُّ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَلَا يَكُونُ فِرَارُهُ كَبِيرَةً، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ.

قَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ (٤) أَوْجَبَ اللَّهُ النَّارَ لِمَنْ فَرَّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ:


(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة الأنفال: ٨ / ٤٧١ - ٤٧٢ وقال: هذا حديث حسن، والإمام أحمد في المسند: ١ / ٣١٤. وعزاه السيوطي: للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي يعلى، وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ وابن مردويه. (الدر المنثور: ٤ / ٢٨) .
(٢) في "أ": (يريدون) .
(٣) أخرجه الطبري في التفسير: ١٣ / ٤٣٧، ورواه مختصرا أبو داود في الجهاد، باب التولي يوم الزحف: ٣ / ٤٣٩، والحاكم: ٢ / ٣٢٧، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وعزاه السيوطي: لعبد بن حميد، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في الناسخ والمنسوخ، وأبي الشيخ وابن مردويه، (الدر المنثور: ٤ / ٣٦) .
(٤) أخرجه الطبري: ١٣ / ٤٣٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>