للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَحَدُهُمَا: بِمَعْنَى التَّحْوِيلِ وَالنَّقْلِ وَمِنْهُ نَسْخُ الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ يُحَوَّلَ مِنْ كِتَابٍ إِلَى كِتَابٍ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كُلُّ الْقُرْآنِ مَنْسُوخٌ لِأَنَّهُ نُسِخَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.

وَالثَّانِي: يَكُونُ بِمَعْنَى الرَّفْعِ يُقَالُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ أَيْ ذَهَبَتْ بِهِ وَأَبْطَلَتْهُ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَعْضُ الْقُرْآنِ نَاسِخًا وَبَعْضُهُ مَنْسُوخًا وَهُوَ الْمُرَادُ من الآية ١٧/أوَهَذَا عَلَى وُجُوهٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يَثْبُتَ الْخَطُّ وَيُنْسَخَ الْحُكْمُ مِثْلَ آيَةِ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ. وَآيَةِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ بِالْحَوْلِ وَآيَةِ التَّخْفِيفِ فِي الْقِتَالِ وَآيَةِ الْمُمْتَحِنَةِ وَنَحْوِهَا (١) ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} مَا نُثْبِتُ خَطَّهَا وَنُبَدِّلُ حُكْمَهَا، وَمِنْهَا أَنْ تُرْفَعَ تِلَاوَتُهَا وَيَبْقَى حُكْمُهَا مِثْلَ آيَةِ الرَّجْمِ، وَمِنْهَا أَنْ تُرَفَعَ تِلَاوَتُهُ أَصْلًا عَنِ الْمُصْحَفِ وَعَنِ الْقُلُوبِ كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ: أَنَّ قَوْمًا مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَامُوا لَيْلَةً لِيَقْرَءُوا سُورَةً فَلَمْ يَذْكُرُوا مِنْهَا إِلَّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَغَدَوْا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "تِلْكَ سُورَةٌ رُفِعَتْ تِلَاوَتُهَا وَأَحْكَامُهَا" (٢) وَقِيلَ: كَانَتْ سُورَةُ الْأَحْزَابِ مِثْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَرُفِعَ أَكْثَرُهَا تِلَاوَةً وَحُكْمًا، ثُمَّ مِنْ نَسْخِ الْحُكْمِ مَا يُرْفَعُ وَيُقَامُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، كَمَا أَنَّ الْقِبْلَةَ نُسِخَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ نُسِخَتْ بِالْمِيرَاثِ وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ نُسِخَتْ مِنَ الْحَوْلِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَمُصَابَرَةُ الْوَاحِدِ الْعَشْرَ فِي الْقِتَالِ نُسِخَتْ بِمُصَابَرَةِ الِاثْنَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يُرْفَعُ وَلَا يُقَامُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، كَامْتِحَانِ النِّسَاءِ. وَالنَّسْخُ إِنَّمَا يَعْتَرِضُ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي دُونَ الْأَخْبَارِ.

أَمَّا مَعْنَى الْآيَةِ فَقَوْلُهُ {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ مِنَ النَّسْخِ، أَيْ: نَرْفَعُهَا، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ السِّينِ مِنَ الْإِنْسَاخِ وَلَهُ وَجْهَانِ:

أَحَدُهَمَا: أَنْ نَجْعَلَهُ كَالْمَنْسُوخِ.

وَالثَّانِي: أَنْ نَجْعَلَهُ نُسْخَةً لَهُ [يُقَالُ: نَسَخْتُ الْكِتَابَ أَيْ كَتَبْتُهُ، وَأَنْسَخْتُهُ غَيْرِي إِذَا جَعَلْتُهُ نُسْخَةً لَهُ] (٣) {أَوْ نُنْسِهَا} أَيْ نُنْسِهَا عَلَى قَلْبِكَ.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، نَتْرُكُهَا لَا نَنْسَخُهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى "نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ" (٦٧-


(١) انظر تفصيل أحكام النسخ وما يتعلق به في: الرسالة للإمام الشافعي ص١٣٧ وما بعدها، والإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه. لباب التفسير: ١ / ٣٨٢-٣٨٦ وعامة كتب أصول الفقه.
(٢) عزاه ابن كثير للطبراني بسنده عن سالم عن أبيه وقال: سليمان بن الأرقم ضعيف. وقال: وقد روى أبو بكر الأنباري عن أبي أمامة مثله مرفوعا: التفسير ١ / ١٥١ طبع بيروت، وحديث أبي أمامة فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وهو ضعيف. وعن عمر قال: قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانا يقرآن بها، فقاما يقرآن ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرا ذلك له فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنها مما نسخ أو نسي فألهوا عنها فكان الزهري يقرؤها (ما ننسخ من آية أو ننسها) بضم النون خفيفة. رواه الطبراني وفيه سليمان بن أرقم وهو متروك (المجمع: ٦ / ٣١٥) . وأخرج حديث أبي أمامة بن سهل الواحدي أيضا في التفسير: ١ / ١٧٢، وانظر: أسباب النزول للواحدي ص٣٢ وتفسير القرطبي: ٢ / ٦٣، الدر المنثور: ١ / ٢٥٦.
(٣) زيادة في ب.

<<  <  ج: ص:  >  >>