للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ لَا يَفْتَحُ مَتَاعًا وَلَا يَنْظُرُ فِي وِعَاءٍ إِلَّا اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَأَثُّمًا مِمَّا قَذَفَهُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا رَحْلُ بِنْيَامِينَ، قَالَ: مَا أَظُنُّ هَذَا أَخَذَهُ، فَقَالَ إِخْوَتُهُ: وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُ حَتَّى تَنْظُرَ فِي رَحْلِهِ فَإِنَّهُ أَطْيَبُ لِنَفْسِكَ وَلِأَنْفُسِنَا، فَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُ اسْتَخْرَجُوهُ مِنْهُ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

{ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} وَإِنَّمَا أَنَّثَ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ "ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا" وَالصُّوَاعُ مُذَكَّرٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: "وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ"؛ لِأَنَّهُ رَدَّ الْكِنَايَةَ هَا هُنَا إِلَى السِّقَايَةِ.

وَقِيلَ: الصُّوَاعُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. فَلَمَّا أَخْرَجَ الصُّوَاعَ مِنْ رَحْلِ بِنْيَامِينَ نكس إخوته رؤوسهم مِنَ الْحَيَاءِ، وَأَقْبَلُوا عَلَى بِنْيَامِينَ وَقَالُوا: مَا الَّذِي صَنَعْتَ فَضَحْتَنَا وَسَوَّدَتْ وُجُوهَنَا يَا بَنِي رَاحِيلَ؟ مَا يَزَالُ لَنَا مِنْكُمُ الْبَلَاءُ، مَتَى أَخَذْتَ هَذَا الصُّوَاعَ؟ فَقَالَ بِنْيَامِينُ: بَلْ بَنُو رَاحِيلَ لَا يَزَالُ لَهُمْ مِنْكُمْ بَلَاءٌ ذَهَبْتُمْ بِأَخِي فَأَهْلَكْتُمُوهُ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَوَضَعَ هَذَا الصُّوَاعَ فِي رَحْلِي الَّذِي وَضَعَ الْبِضَاعَةَ فِي رِحَالِكُمْ، فَأَخَذُوا بِنْيَامِينَ رَقِيقًا (١) .

وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ أَخْذَ بِرَقَبَتِهِ وَرَدَّهُ إِلَى يُوسُفَ كَمَا يُرَدُّ (٢) السُّرَّاقُ. {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} وَالْكَيْدُ هَا هُنَا جَزَاءُ الْكَيْدِ، يَعْنِي: كَمَا فَعَلُوا فِي الِابْتِدَاءِ بِيُوسُفَ مِنَ الْكَيْدِ فَعَلْنَا بِهِمْ. وَقَدْ قَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيُوسُفَ: "فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا"، فَكِدْنَا لِيُوسُفَ فِي أَمْرِهِمْ.

وَالْكَيْدُ مِنَ الْخُلُقِ: الْحِيلَةُ، وَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى التَّدْبِيرُ بِالْحَقِّ. وَقِيلَ: كِدْنَا: أَلْهَمْنَا. وَقِيلَ: دَبَّرْنَا. وَقِيلَ: أَرَدْنَا. وَمَعْنَاهُ: صَنَعْنَا لِيُوسُفَ حَتَّى ضَمَّ أَخَاهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِخْوَتِهِ.

{مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ} فَيَضُمَّهُ إِلَى نَفْسِهِ، {فِي دِينِ الْمَلِكِ} أَيْ: فِي حُكْمِهِ. قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي سُلْطَانِهِ. {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} يَعْنِي: إِنَّ يُوسُفَ لَمْ يَكُنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ حَبْسِ أَخِيهِ فِي حُكْمِ الْمَلِكِ لَوْلَا مَا كِدْنَا لَهُ بِلُطْفِنَا حَتَّى وَجَدَ السَّبِيلَ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَا أَجْرَى عَلَى أَلْسِنَةِ الْإِخْوَةِ أَنَّ جَزَاءَ السَّارِقِ الِاسْتِرْقَاقُ، فَحَصَلَ مُرَادُ يُوسُفَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} بِالْعِلْمِ كَمَا رَفَعْنَا دَرَجَةَ يُوسُفَ عَلَى إِخْوَتِهِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: " يَرْفَعُ " وَ" يَشَاءُ " بِالْيَاءِ فِيهِمَا [وَإِضَافَةُ دَرَجَاتٍ إِلَى {مَنْ} فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْوَجْهُ أَنَّ الْفِعْلَ فِيهِمَا مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أَيْ: يَرْفَعُ اللَّهُ دَرَجَاتِ مِنْ يَشَاءُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنُّونِ فِيهِمَا إِلَّا أن الكوفيين قرؤوا: " دَرَجَاتٍ " بِالتَّنْوِينِ، وَمَنْ سِوَاهُمْ بِالْإِضَافَةِ، أَيْ: نَرْفَعُ بِهِ نَحْنُ، وَالرَّافِعُ أَيْضًا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى] (٣) .


(١) انظر: تفسير الطبري: ١٦ / ٢٠٠، تاريخ الطبري: ١ / ٣٥٥.
(٢) في "أ": يرق.
(٣) ما بين القوسين ساقط من "ب".

<<  <  ج: ص:  >  >>