للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَاكُ: كَانَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ بَرَاءَةٌ حِينَ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُ وَمُنِعَ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِالْقِتَالِ، فَلَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ، وَأُمِرُوا بِالْجِهَادِ نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (١) .

وَقَالَ النَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ سِيرِينَ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ نَزَلَتْ فِي مَنْ ظُلِمَ بِظُلَامَةٍ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنَالَ مِنْ ظَالِمِهِ أَكْثَرَ مِمَّا نَالَ الظَّالِمُ مِنْهُ، أُمِرَ بِالْجَزَاءِ وَالْعَفْوِ، وَمُنِعَ مِنَ الِاعْتِدَاءِ (٢) . ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨) }

{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} أَيْ: بِمَعُونَةِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ، {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْكَ، {وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} أَيْ: فِيمَا فَعَلُوا مِنَ الْأَفَاعِيلِ.

قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ هَاهُنَا وَفِي النَّمْلِ {ضِيقٍ} بِكَسْرِ الضَّادِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الضَّادِ، قَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: هُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ رِطْلٍ وَرَطْلٍ.

وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: "الضَّيْقُ" بِالْفَتْحِ: الْغَمُّ، وَبِالْكَسْرِ: الشِّدَّةُ.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "الضِّيقُ" بِالْكَسْرِ فِي قِلَّةِ الْمَعَاشِ وَفِي الْمَسَاكِنِ، فَأَمَّا مَا كَانَ فِي الْقَلْبِ وَالصَّدْرِ فَإِنَّهُ بِالْفَتْحِ.

وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الضَّيْقُ تَخْفِيفُ ضَيِّقٍ مِثْلُ هَيْنٍ وَهَيِّنٍ، وَلَيْنٍ وَلَيِّنٍ، فَعَلَى هَذَا هُوَ صِفَةٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَكُنْ فِي أَمْرٍ ضَيِّقٍ مِنْ مَكْرِهِمْ. {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} الْمَنَاهِيَ، {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} بِالْعَوْنِ وَالنُّصْرَةِ.


(١) أخرجه الطبري عن ابن عباس: ١٤ / ١٩٦، وانظر: الدر المنثور: ٥ / ١٨٠، زاد المسير: ٤ / ٥٠٨.
(٢) الطبري: ١٤ / ١٩٧، القرطبي: ١٠ / ٢٠١، المحرر الوجيز: ٨ / ٥٤٨، زاد المسير: ٤ / ٥٠٨. قال الطبري -رحمه الله- والصواب من القول في ذلك: إن الله تعالى ذكره أمر من عوقب من المؤمنين بعقوبة أن يعاقب من عاقبه بمثل الذي عوقب به، إن اختار عقوبته، وأعلمه أن الصبر على ترك عقوبته، على ما كان منه إليه خير وعزم على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصبر، وذلك أن ذلك هو ظاهر التنزيل، والتأويلات- التي ذكرناها عمن ذكروها عنه -محتملتها الآية كلها، فإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن في الآية دلالة على أي ذلك عنى بها من خبر ولا عقل كان الواجب علينا الحكم بها.. وأن يقال: هي آية محكمة أمر الله -تعالى ذكره- عباده أن لا يتجاوزوا فيما وجب لهم قبل غيرهم من حق مال أو نفس، الحق الذي جعله الله لهم إلى غيره، وأنها غير منسوخة، إذ كان لا دلالة على نسخها، وأن للقول بأنها محكمة وجها صحيحا مفهوما".

<<  <  ج: ص:  >  >>