للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ الْحَسَنُ: وَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ قِبْلَةً (١) .

{فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (١٧) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (١٩) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) }

{فَاتَّخَذَتْ} فَضَرَبَتْ {مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سِتْرًا.

وَقِيلَ: جَلَسَتْ وَرَاءَ جِدَارٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَرَاءَ جَبَلٍ.

وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِذَا حَاضَتْ تَحَوَّلَتْ إِلَى بَيْتِ خَالَتِهَا، حَتَّى إِذَا طَهُرَتْ عَادَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَبَيْنَمَا هِيَ تَغْتَسِلُ مِنَ الْمَحِيضِ قَدْ تَجَرَّدَتْ، إِذْ عَرَضَ لَهَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ شَابٍّ أَمْرَدَ وَضِيءَ الْوَجْهِ جَعْدَ الشَّعْرِ سَوِيَّ الْخَلْقِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:

{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} يَعْنِي: جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الرُّوحِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، جَاءَ فِي صُورَةِ بَشَرٍ فَحَمَلَتْ بِهِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فَلَمَّا رَأَتْ مَرْيَمُ جِبْرِيلَ يَقْصِدُ نَحْوَهَا نَادَتْهُ مِنْ بَعِيدٍ فَـ: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} مُؤْمِنًا مُطِيعًا.

فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا يُسْتَعَاذُ مِنَ الْفَاجِرِ، فَكَيْفَ قَالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا؟

قِيلَ: هَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَلَا تَظْلِمْنِي. أَيْ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِيمَانُكَ مَانِعًا مِنَ الظُّلْمِ وَكَذَلِكَ هَاهُنَا.

مَعْنَاهُ: وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ تَقْوَاكَ مَانِعًا لَكَ مِنَ الْفُجُورِ (٢) . {قَالَ} لَهَا جِبْرِيلُ: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ} قَرَأَ نَافِعٌ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ: "لِيَهَبَ لَكِ" بِالْيَاءِ، أَيْ: لِيَهَبَ لَكِ رَبُّكِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "لِأَهَبَ لَكِ" أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الرَّسُولِ، وَإِنْ كَانَتِ الْهِبَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ أَرْسَلَ بِهِ.

{غُلَامًا زَكِيًّا} وَلَدًا صَالِحًا طَاهِرًا مِنَ الذُّنُوبِ. {قَالَتْ} مَرْيَمُ {أَنَّى} مِنْ أَيْنَ {يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} لَمْ يَقْرَبْنِي زَوْجٌ {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} فَاجِرَةً؟ تُرِيدُ أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ سِفَاحٍ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا.


(١) انظر هذه الأقوال وغيرها: الطبري ١٦ / ٥٩-٦٠، "الدر المنثور": ٥ / ٤٩٤، "زاد المسير": ٦ / ٢١٦-٢١٧.
(٢) انظر بتفصيل أوسع: "مسائل الرازي وأجوبتها عن غرائب آي التنزيل" ص (٢١٠-٢١١) .

<<  <  ج: ص:  >  >>